حكاية نبوغ.. حدث وحديث (15)

يُعرِّف مُعجم المعاني الجَامع “النبوغ” بأنَّه عَبقرية قُوة الإِبداع الأَدبي، أَو الفني، أَو العلمي. وهُناك، وَمْضَةُ النبوغ العقلي المُفاجئة، على مَر العُصور، وهي حَالة استثنائية مِن تَوارد التوقُد الذهني؛ واكتمال النُضج الفِكري، تُصاحِب عَقل الفرد؛ وتُرافِق شخصيته؛ وتَظهَر بقوة زخم آثارِها التنويرية جَلية، بعَلامَات الذكاء المُتدفِق؛ ومَانِحة بشواهِد الأَلمَعية الفكرية؛ ومُغدِقة بأَمَارَات هِباتِها السخية، في مَجال علمٍ، أَوفنٍ… يَتميز العبقري تِباعًا، عَمَّن حَوله، مِن الأَقران، بتَخطِّي اعتدال مُستوى الأُفق العقلي الدارِج؛ وتَعدِّي المَنحَى الفكري المُتاح، للشريحة المألوفة المُعتادة، مِن سَواد العامة، في مُحيط مُجتمعه… والمُلفت للنظر أَنَّ توقيت تألق، وترقُب تَبلج، تلك الوَمضة العقلية الشاطِحة، غير مُرتبط بفترة زَمنية مَعروفة، أَو مُلتزم بمَرحلة عُمرية مُحددة؛ بيدَ أَنَّ الشواهِد العامة تشير إلى أَنَّ فترة الطفولة المُبكرة امتدادًا، إِلى ما بَعد البلوغ، هي الأرضِية الخِصبة لمُشاهدة بَوادر التألق الفكري؛ واستقصاء النبوغ الذهني؛ واستنباء التفوق العقلي… ولتلك القاعدة العامة شواذ غير مَعروفة؛ ونَوادر غير مَألوفة، عند ثُلة الصفوة مِن بني البشر، مِن فَيض مَاطِر، مِن هَطل المُعجزات الربانية؛ وهَمر عَاطِر، مِن إِهداء وافر، مِن عَطاء الكَرامات الإِلهية؛ وغَمر سَابغ مِن شآبيب مُنصَبَّة مِن عَطاء غَيث الأُمور الخارقة الإِلهامية، بما حَدثنا وأَخبرنا عنه صَريح آي الذكر الحكيم، في مَتن القرآن المجيد، عن نَبي الله، عيسى بن مَريم، عليه وعلى نبينا الأَكرم، مُحمد بن عبدالله، وعلى آله النجباء الأكرمين، وأصحابه الغر الميامين، جَميعًا أفضل الصلاة، وأَتم التسليم، بأنَّ النبي المسيح كان يُكلُّم الناس في المَهد، ويُحيي المَوتى، ويُبرئ الأَكْمه والأبرَص… بإِذن ربه!

ولعلي هُنا، أسلِّط بَصيصًا مِن الضوء الخافت مُستبصِرًا، مِن جانب شُرفة نافذة مُعتِمة صَغيرة؛ واستعيد مُستلهِمًا، صُورًا مِن “أُلبوم” حَعبة صَادحة… ولعلها أبرقت، وانتشر ضَؤها الساطع، في الربع الأخير مِن أَحلى سَبعينيات القرن الميلادي المنصرم، عندما كنت طالبًا مُبتعثًا للدراسة، في رُبوع الولايات المتحدة الأَمريكية، لصالح برنامج وزارة المَعارف الجليلة، لإِعداد المعلمين لتدريس مَادة اللغة الإِنجليزية، للمرحلة المتوسطة… حَيث درست “كورسًا” في الكتابة الأدبية (الشعر والدراما) عند أُستاذ الأدب النابغة المتميز “د. وليم واردي” والطريف والمثير في الأَمر ما أَوضَح وصرَّح به الأستاذ شخصيًا، عن سِيرته الدراسية، حيت أَفاد مُتحدثًا عن نفسه، في إحدى مُحاضراته الماتعة، بأنَّه كان تَعيسًا دراسيًا، ومُتخلفًا عن مُواكبة رَكب أَترابه مِن الطلاب… وبعد أَنْ وَصَل إِلى أَعتاب المرحلة الجامعية- بعد جُهد جَهيد- كان عليه أَن يُنهي كُورسات اللغة الإنجليزية الأَساسية، كمُتطلب أَساس، في السنة الأولى التحضِيرية؛ ليخطو لاحقًا، نحو متطلبات التخصص في السنة الثانية، بعد اجتيازه المتطلب الأَساس؛ ولِتعاسته المُتعثرة؛ فقد أَمضى ثلاث سَنوات مُتتالية، لإنهاء متطلب كورسات اللغة الإنجليزية… وبعد ذلك التعثر الملحوظ، حَدث له تدفق وانصباب الوَمضة العقلية الفكرية؛ ونَبغ نُبُوغًا مَلحوظًا ومَشهودًا- لا يُشقُّ له غُبار- بين أَقرانه، مُتخطِيًا كل أَعتى الحَواجز؛ ومُتجاوِزًا أَشد العَقبات… إِلى أَنْ عَبَّد جَادة طريقه الدراسي الناجح، بيُسرٍ وسُهولةٍ؛ وتَفوَّق بامتياز مَرمُوق؛ حتى نَال درجة الدكتوراة في الاَداب… وهَا هُو- آنذاك- أستاذ نابغة، يُشار إِليه بالبنان؛ ويُعوََّل عليه في رَسميًا في تدشين أَهم التشريفات الجامعية، والمراسيم الإدارية؛ واستهلال المناسبات التكريمية…

والمُلفت لانتباهي، كان الأستاذ الخَبير النِّحرِير، يتمتع بالتواضع، وسَعة الصدر، وسَمَاحَة النفس؛ ويَأنس كثيرًا، سَبَّاقًا مُبادِرًا، بالمُناقشة والحِوار الثنائي، خاصة فيما يَتعلق بمُناقشة ومُداولة بعض الأُمُور المُتعلقة بالأَدب المُقارَن… ولا أكاد أَنسى بيتي الشعر اللذين ترجمتهما له للمتنبي: ولو أَنَّ النساءَ كما فقدنا… لفُضِّلت النساءُ على الرجالِ فما التأنيثُ لاسم الشمسِ عَيبٌ… ولا التذكيرُ فَخرٌ للهلالِ؛ مُوضحًا له، في فَسَاحة الموقف نفسِه، أَنَّ الشمسَ في الثقافة العربية مُؤنث، والقمرَ مُذكر… والأمر على عَكسهما تَمامًا في الثقافة الغربية… فما كان مِن الأستاذ الفطِن النبيه، إِلّا أَن استثار قَبولًا، واستشاط استحسانًا؛ وكاد أَن يُقبِّل رأسي؛ لانبهاره بعُذُوبة، وجَزَالة، ورِقَّة اللغة العربية، مَعنى ومَغنى؛ وقد مَدَّ يده ليُصافحني؛ وشدَّ على يدي بحرارة!… ولا أَكاد أَنسى مُجددًا، في المَقام الثاني، أَنَّ مِن مُتطلبات الكورس ذاتِه، أَنْ يُقدِّم الطالب ورقة وَاجبٍ تحريريٍ أُسبوعي، يتناول، في فَحواها، خُلاصة الفكرة الرئيسة المَطروحَة، وموضوع المُناقَشة الساخن المُقدَّم مُؤخرًا، بأُسلوبٍ أَدبيٍ إِبداعيٍ مُتميزٍ!… وفي كُِل مَرةٍ أقدِّم له وَرقة الواجب، في نهاية المحاضرة، يُبادر ويُباشر مَشكورًا، بقراءتها بشغف؛ وكَثيرًا ما يُسعدني طربًا، بالثناء على نقاط القوة.

هذا، وللأُستاذ المُبجَّل طيفٌ زاخرٌ مِن لَفيف المُبادرات الذكية… آخرها مَوقفان مُشرِّفان: أَولهما، أَنَّه قببل انتهاء آخر مُحاضرة، فاجأَ جَميع الطلاب والطالبات، باستأْذانه، وغادر القاعة لبُرهةٍ؛ ليَعود بعد هُنيهة، بمعِية سِكرتيرته يسحبان عَربة حُبلى مُحمَّلة بالكتب- مِن القطع المُتوسط- وقد جَدَّ واجتهدَ في إِهداء أَرقى دِيباجة أَدبية مُتميزة، باسم كل طالب وطالبة؛ وقد ذيلها بخط يده، داخل كُل كتاب؛ وأَهدَى بريقَها الرنان مُناولة، لكل واحِدٍ ووَاحِدةٍ، بصيغ أدبية مِزاجية مَدروسة، تُناسب ذائقتهم الأَدبية والنفسية، على انفراد؛ مُناديًا كل واحدٍ بالاسم أَصالة؛ وإِهداء الكتاب الأَدبي المُناسب، يدًا بيدٍ، بِما يَتناسب مع حَاضر مُيوله؛ ويَتطابق مع شَاهد مَخزون فِكره؛ وقد أَجاد حَضرته؛ وأُصاب مَرمى هَدفه المرسوم بدقةٍ عَاليةٍ، وصِدقٍ مُتناهٍ… ولاحقًا، عِندما تصفَّحت الكتاب المُهدَى إِليَّ آنذاك، بعِناية ودِراية، أيقنت بذكاءٍ وأَلمعيةٍ، لا تَرقيان إِلى الشك، بأَنَّ الأُستاذَ الإِنسان المُخلص، المُتمكِّن مِن صُلب مَادته العلمية، هو مِن الطراز الأَول؛ ومِن الرعِيل القارئ الحذِق المُحقق، والعارِف البارع بأَمزجة ونَفسيات ومُيول طُلابه، مِن الجنسين، قلبْا وقالبًا!

ولا أَكاد أَنسى ابتدارًا الموقف الثاني، وقد اعتلى شُعاع بريقه الساطع سَنام ناصية ذاكرتي المُتوقدة توًا… إذْ بَعد اتتهاء الكورس الدراسي، زُرت الأُستاذ في مّكتبه المُتواضع، طالبًا مِنه مَنحِي خِطاب تَوصِية؛ فاستجاب، ووَعد بأن أَمُر على سكرتيرته؛ وأَتسلم الخطاب في اليوم التالي… وفي الموعد المُحدد، ذهبت إِلى مكتب الأستاذ؛ وتسلمت الخطاب؛ لأَقرأَه على الفور، وكان مُؤرخًا في اليوم السادس والعشرين مِن فبراير، مِن عام 1981م؛ ولفت انتباهي فَحواه: بأَني كُنت أحد الطلاب المُتميزين طِوال فترة الكورس الدراسي؛ ووَاحد مِن خمسة طلاب مِمَّن استحقوا درجة نهائية “B”… وأَني لا أمنح طلابي أَعلى مِن درجة B مُطلقًا، وهي عندي تُعادل درجة التفوق”A”… هذا، وقد سَعِدت كَثيرًا بمِنظار ومِعيار الصراحة والوضوح الغامِرين، لسَماحة، ودَمَاثة، وفُكَاهَة البَوح المِتأَدب اليقظ، في طُرَافة وجِدِّية الكلام… ولعل بداية حَبكة خُيوط الحِكاية الجَاذبة، بدأت وتطورت- بحَرٍ وجَرٍ- لأَنفاس التعاسة المُتصعِّدَة اليائسة، التي لا تَلوِي على مُتكأٍ يُذكر؛ ولا تَستنِد إلى وِسادة تُرِيح… وهكذا تَهشَّمت شَكائمها؛ وارتقت زَاهية- بفخرٍ وإِعجابٍ- وَسط أَريكةٍ وثيرةٍ؛ تختال بسَماحةِ ودَماثةِ جَالسها الفذ العبقري… تَحُوطه نظرات الأَعين الفاحصة؛ وتَرمُقه الأَبصار طويلًا، بجَدارة وإِنعامٍ؛ وتُبجِّله سَرائر النفوس استحقاقًا، بأَهلية وإِكرام!



error: المحتوي محمي