ما هي حقيقة اللغط الدائر حول عدم أهمية وجبة الإفطار؟ هذا السؤال طرحته بعد أن وصلتني رسالة من صديق يستفسر فيها عن صحة المعلومة التي سمعها من أحد الدكاترة والتي تشكك في وجود دلائل علمية تؤكد أهمية وجبة الإفطار! عجبتُ للأمر! لماذا هذا الجدل حول موضوع يعتبر من المُسَلّم به؟! إن الجميع يدركون دور وجبة الإفطار وتأثيرها الإيجابي على الصحة العامة، أما السبب الذي حفّزني أن أضع هذا اللغظ مادة لمقالة هذا الأسبوع، هي الرسالة التي نؤمن تمامًا بأهميتها؛ والتوعية التي لا بد منها، إنها مسؤولية.. مسؤولية نطالب بها.
بداية لسنا بحاجة إلى أبحاث أو دراسات علمية تؤكد لنا أهمية وجبة الإفطار، ولو تساءلنا: هل يوجد وجبة غذائية تحافظ على النشاط والحيوية وتتحمل أعباء اليوم الطويل غير وجبة الإفطار؟ نجيب بأن هذه الوجبة التي اعتاد عليها أجدادنا الذين أقاموا الصروح وشيّدوا الأمجاد وتوارثناها أبًا عن جد، وكم ضيع الأحفاد من عادة حسنة كان اجدادهم أهلًا لها! ولكن بالرغم من هذا التشوش البادي على السطح بعدم وجود دلائل علمية تؤكد أهمية وجبة الإفطار في تغذية الإنسان، هذا التشوش يُعَدّ من الاعتقادات الخاطئة الشائعة والادعاءات الباطلة، فوجبة الإفطار تعتبر موروثًا لها تأثير إيجابي بصورة ملحوظة، فعند حرمان الإنسان فطوره تقل مقدرته على العمل والإنتاجية والتحصيل العلمي.
وجبة الإفطار تصنع أمرين: الأول المحافظة على النشاط والحيوية وخصوصًا أن أعباء الإنسان العملية والاجتماعية تتزايد بصورة معقدة، والثاني قد يصاب البعض بالإنهاك المزمن، لذا فمن المهم تناول الأغذية الصحية في بداية النهار. تعتبر وجبة الإفطار أهم وجبة في اليوم، فهي بمنزلة الوقود اليومي سواء أكانت هذه الوجبة في البيت أو في مقر العمل، وتناولها عادة جيدة وقد تكون بعد قدرة الله بداية لصحة جيدة ومستمرة طوال حياة الإنسان. التخلي لسبب أو آخر عن تناول وجبة الإفطار يشبه شخصًا يبدأ رحلة طويلة بينما مؤشر الوقود في سيارته قريب من الصفر، وبالتالي فمن لا يتناول إفطاره سيستهلك جزءًا من وقود جسمه قبل أن ينقضي نصف صباحه المشغول جدًا.
ثلاث دراسات صحية خرجت في فترة قصيرة تحدثت كلها عن أثر وجبة الإفطار على أداء الإنسان عمله خلال فترات العمر المختلفة خلصت كلها إلى نتيجة واحدة هي: أن وجبة الإفطار من أهم العوامل الإيجابية في زيادة الإنتاجية للطلاب والموظفين ورجال الأعمال. تتدخل بعض الشركات العالمية في الشؤون الغذائية والصحية للموظفين للرقي بإنتاجيتهم، وأعدت الأمريكية الرائدة برامج صحية في هذا الشأن، وهذه البرامج تأخذ في الاعتبار التغذية الصحية الصحيحة التي تزيد من إنتاجية الموظفين في الشركات التي يعملون بها، وتحوي معظم الشركات الأمريكية مطاعم “كافيتيريا”، تديرها وتدعمها ماليًا لتوفير وجبات صحية تستقبل بها موظفيها بتكلفة وصلت -في المتوسط- إلى 9992 دولارًا للموظف الواحد، هذه الخطوة الإستراتيجية تؤكد أهمية ترسيخ الثقافة الصحية المؤسسية لما لها من تأثير مباشر في الإنتاجية، فشجعت على الإبداع والابتكار والبحث والتطوير في هذا الاتجاه للوصول إلى ما يساعدها على توفير مستوى صحي عالٍ لموظفيها للاستمرار في العمل معها بدرجة عالية من الكفاءة الإنتاجية. وينظر بعض الشركات لهذا الجانب المهم على أنه مسؤولية اجتماعية تجاه موظفيها الذين يُعَدّون أهم مواردها. جاء في معلومات إحصائية أمريكية أن الموظفين الذين لا يعملون بمستوى عالٍ من الأداء لأسباب صحية تعود للتغذية، يكلفون الاقتصاد الأمريكي 180 مليار دولار سنويًا. وأن تكلفة الموظف الأمريكي الذي يتغيب عن عمله لنفس الظروف تقدر بـ13277 دولارًا سنويًا مما يؤثر على الإنتاجية للمؤسسة التي يعمل فيها ومن ثم الاقتصاد الوطني بشكل عام. إلا أن العلماء يعرفون اليوم الكثير من المعلومات أكثر وضوحًا عن الوجبات وعددها وأوقاتها والمناسبة للصحة. أود أن أوضح أنه في العشرين عامًا الماضية تم عمل مجموعة أبحاث ودراسات حول تأثير وجبة الإفطار، واكتشاف علاقات مؤثرة بين إهمال هذه الوجبة وأمراض أو صحة الإنسان. ومن الطبيعي أن يكون الأشخاص الذين يبذلون بإسراف جهدًا عقليًا أو جسمانيًا في أعمالهم، بحاجة أكبر إلى وجبة إفطار أكبر من غيرهم، إهمال تناول وجبة الإفطار يجعل الشخص موزعًا ومشتتًا ومتعبًا وضعيف القدرة على التركيز.
إن علاقة الصحة بالإنتاجية قوية، فالتغذية غير الصحية تتسبب في العديد من الأمراض التي تؤدي بالتالي إلى الغياب عن العمل، وعدم الرضا الوظيفي، وعدم الالتزام الوظيفي، وضعف أو عدم الولاء، وضعف أو عدم الإخلاص، ومعدل ترك الموظفين لشركاتهم، وتكلفة الرعاية الصحية، وكلفة التعويض لمن توفوا وهم يعملون، وتكلفة إحلال المتوفين أو الذين تركوا العمل لظروف صحية، وتشير دراسة أمريكية إلى أن الموظفين الذين يتمتعون بصحة ولياقة عالية هم أقل الموظفين تغيبًا، وأكثرهم نظرة إيجابية إلى العمل، وأقلهم قلقًا وضغوطًا وأقلهم تركًا للشركات التي يعملون فيها، وأشارت الدراسة إلى أن غياب الموظفين في الولايات المتحدة الأمريكية يكلف الشركات بين 20 إلى 100 مليار دولار. بينما تصل تكلفة الضغوط النفسية على الاقتصاد الأمريكي بين 200 إلى 300 مليار دولار. بينما التغذية السليمة والبرامج الصحية ستقلص هذه التكاليف بنسبة كبيرة تصل إلى 80% مما يرفع مستوى الإنتاجية.
قد نستقبل تلك الدراسات الأمريكية بشيء من الشك خصوصًا أن نظرية “المؤامرة” تشكل أهم “وعاء تحليلي” يمكن أن يفسر هذه الحماسة الزائدة لوجبة الإفطار! وقد نستقبل هذه الأرقام والتحليلات بشيء من الريبة ولا سيما أن المستفيدين من ترسيخ هذا الاهتمام بالفطور هم الشركات العملاقة المنتجة للأغذية وعالم التموين الغذائي ولا سيما تلك الأغذية التي تحتل مواقع إستراتيجية على مائدة الإفطار! لكن ذلك الشك وتلك الريبة في رأيي الخجول لابد أن تتضخم في ظل مؤشرات نعيشها وانطباعات تراكمت عبر السنين حتى أصبحت في خانة المسلّمات!
لقد عرف عصرنا هذا عادة سيئة باتت شائعة لدى معظم الناس، نعني بها عادة اختصار الوقت الذي يقضونه أمام مائدة الإفطار، واقتصارهم فيها على كوب من الحليب أو الشاي معد في المنزل أو على الطريق “الوجبات الجوالة” أو إلغاء الوجبة تمامًا بحجة السرعة من جهة وخضوعًا لفكرة شائعة خاطئة تقول بأن من الخير للإنسان ألا يتناول طعامًا في الصباح، ففي جنوب إفريقيا يفضل الأفارقة العمل طوال النهار بمعدة فارغة حتى يأكلوا وجبتهم الوحيدة والكبيرة في المساء، وللوهلة الأولى فكرة الوجبة الواحدة في اليوم مرفوضة، ليس لأن معدتنا صغيرة لحشوها بكل الأطعمة اللازمة لجسمنا في وقت واحد، بل كفاءة عضلات الجسم تقل بصورة ملحوظة عند حرمان الإنسان من فطوره، فقد وجد بالتجربة أنه لكي يمكن الحفاظ على إنتاجية الفرد أو مقدرته على العمل يجب إمداده بوجبة الصباح، والواقع أن من أكثر الأمور تأثيرًا على الصحة أن تستقبل أفضل ساعات يومنا بالعمل والحركة والتفكير بمعدات خاوية لأن النتيجة الطبيعية لذلك هي استنفاد ما في الجسم من مواد احتياطية، وبالتالي فقر الدماغ من الدماء، مما يجعل الذاكرة ضعيفة، والجسم كسولًا خاملًا لا يستطيع أن يؤدي عمله على الوجه الأكمل.
إن وجبة الصباح هي أهم وجبات اليوم إطلاقًا، فالمعدة تكون خالية في الصباح، فهي مستعدة لتقبل كل ما يلقى فيها من غذاء، ولذا من الضروري أن نلبي هذه الحاجة، وأن تزود المعدة بالمقادير الغذائية الكافية لإمداد الجسم بحاجته من مصادر الحرارة. وقد ثبت بالإحصاءات الدقيقة، أن العامل الذي تناول إفطاره صباحًا يكون أقدر على الإنتاج وأقل تعرضًا للخطأ من العامل الذي جاء المعمل من غير طعام، وأن الطالب الذي استجاب لحاجة معدته من الغذاء أقدر على استيعاب الدروس من ذاك الذي جاء المدرسة من غير غذاء. في الوقت الذي يضيق فيه الكثيرون من تناول هذه الوجبة، نجد أن هناك أناسًا مهتمين بأمور إفطارهم الصباحي، يقدسون هذه الوجبة كعادة مفيدة، وحينما يهملونها في يوم ما لضيق الوقت؛ سيشعرون دائمًا بالذنب. مشكلة معظم الناس في هذا الزمن ونحن في عصر السرعة عدم توفر الوقت للجلوس لتناول هذه الوجبة، فحرمنا أنفسنا من متعة أفضل وجبة غذائية عائلية والتي لا تعلو عليها أي وجبة أخرى. فيمكننا إلغاء وجبة العشاء تمامًا والاكتفاء بوجبتي الإفطار والغداء.
كثير من الناس يصابون بالتعب لأنهم لا يتناولون وجبتهم الصباحية قبل خروجهم من المنزل، وقد أثبت بعض علماء الاجتماع حقيقة مهمة وهي أن العائلات التي لا تسودها السعادة المنزلية، وتكثر فيها المشاكل العائلية هي التي لا تعنى بطعام إفطارها عناية كافية، لذا ينصح علماء التغذية بضرورة تناول وجبة الإفطار لأنها تعطي القوة والنشاط وبهجة الحياة، وتجنب الضجر والتوترات العصبية، وتصفي الذهن، وتنشط الهمة لمتابعة العمل، وأن الامتناع أو التقليل من تناول أطعمتها يمكن أن يسبب أضرارًا على الصحة النفسية والجسدية، لذلك ينصح بألا تغادر منزلك في الصباح دون إفطار ولا تدع مشاغلك تنسيك هذه الوجبة.
– تمثل وجبة الإفطار أهمية خاصة بالنسبة للتلاميذ للاستيعاب والفهم والتحصيل الدراسي. إن من الخطأ للطالب ألا يتناول طعامًا في الصباح، والواقع أن من أكثر الأمور تأثيرًا على الصحة أن يستقبل الطلاب يومهم الدراسي بِمعدَات خاوية، لأن النتيجة الطبيعية فقر الدماغ من الدم، مما يجعل الذاكرة ضعيفة وينعكس ذلك على التحصيل المدرسي ويؤثر على درجاتهم وتفوقهم، وقد ثبت بالإحصاءات الدقيقة أن الطالب الذي تناول إفطاره صباحًا أقدر على تذكر المعلومات واستيعاب الدروس من ذاك الذي جاء المدرسة من غير فطور، ومن الضروري أن تكون وجبة الصباح منوعة، وغنية بالقيمة الغذائية. إننا في أمسّ الحاجة إلى تعويد أطفالنا على تناول وجبة الإفطار، وأنصح الآباء والأمهات بعدم السماح لأبنائهم بالذهاب إلى المدرسة دون إفطار. اتركوا ما يقال لكم جانبًا ودعونا نضع لكم هذه التوصية الذهبية لمزيد من الصحة والحيوية والرشاقة، بل والأمل الجميل.
إن الإحصاءات في بعض البلدان تشير إلى أن ما يزيد على 30% من البالغين الشباب يتخلون عن إفطارهم ويبررون ذلك بأسباب واهية من قبيل؛ حتى لا يزيد وزننا، أو أن الوقت غير كاف لتحميص خبزة، ناهيك عن قلي بيضة، لكن الحقيقة التي لا يعلمها كثير من الناس أن وجبة الإفطار، هي وسيلة مضمونة لضبط وزن الجسم. لأن وجبة الإفطار السليمة توفر كمية أقل من السعرات خلال ساعات النهار، والدراسة أشارت إلى أن تناول وجبة إفطار غنية بالألياف والبروتين يتيح للمرء المحافظة على مؤشر طاقته عاليًا في بداية اليوم ويجعله لا يشعر بالجوع مدة أطول، أما وجبة الإفطار غير الجيدة مثل التي تحتوي على الحبوب المحلاة بالسكر والخبز الأبيض، فينتج عنها تناول كمية أكبر من الطعام في وجبة الغداء، ناهيك عن أن الإفطار يمد الجسم بجرعة مناسبة من العناصر الغذائية اللازمة مثل الكالسيوم والبوتاسيوم الموجود في الحليب وفيتامين C والفوليت والألياف الموجودة في الخضروات والفواكه، والألياف والفوليت والحديد في الحبوب الكاملة والفواكه، فإذا أمضى الإنسان بضع دقائق لإعداد وجبة إفطار صحية وتناولها فستمده وأفراد أسرته بطاقة مستمرة – نصائح ذهبية. ونقول هنا: يقضي الطالب والمعلم والطبيب
والمهندس والفني والمهني أو العامل خارج منزله قرابة سبع ساعات أو أكثر يوميًا بعد استيقاظه من نومه قد لا يتناول خلالها أي وجبة عدا وجبة الإفطار، وعندئذ يصبح الاعتماد كليًا على هذه الوجبة التي نتوقع أن تتكون من أصناف تغذوية مختلفة من مأكولات صحية.
هناك عديد من الدراسات الغذائية التي أجريت على تلاميذ المدارس، توضح أن فقر الدم الناتج عن عوز الحديد من أكثر الأمراض انتشارًا في منطقتنا، ويعود ذلك إلى عدم تناول وجبة الإفطار. قبلًا، دأبت إحدى ربات البيوت صباح كل يوم على إعداد وجبة الإفطار لأفراد أسرتها وتتكون من الأرز المطهو بالحليب الطازج والسمن البلدي، وكانت تحرص على تقديم الوجبة الطيبة لأطفالها قبيل انصرافهم إلى مدارسهم، يحكي أحد أفراد العائلة -الذي يعمل حاليًا استشاريًا للأمراض الروماتيزمية- أن هذه الوجبة التي يتناولها صباح كل يوم كانت أحد الأسباب الرئيسة لتفوقه الدراسي، حيث كان يذهب لمدرسته وهو في حالة من النشاط الذهني المرتفع، أما اليوم الذي لا يتناول فيه وجبته الصباحية المعتادة فيذهب لمدرسته وهو مشتت الذهن، كسول، عاجز عن متابعة شرح مدرسيه في الفصل.
وأخيرًا، خذ كوبًا من الحليب الطازج وقطعة خبز مع البيض وحبة من الفاكهة، يا ليتك تحصل على زبيب أو تمر مع الحليب، هذا يكفي لوقود بداية النهار، فأنت في حاجة إلى هذه الوجبة، وهي التي سوف تملأ لك خزان الوقود الذي يزودك بالطاقة التي تحتاج إليها لبداية يومك العملي.
منصور الصلبوخ – أخصائي تغذية وملوثات.