قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل الآية 125].
تشير الآية الكريمة إلى الطريق الذي من خلاله يمكن تبيان الحقائق والمفاهيم والعقائد الحقة والقيم النبيلة التي تزين شخصية الإنسان، حيث يتم كل ذلك عن طريق تكوين القناعة العقلية بذلك الأمر عندما تورد أدلته التي يشيد عليها بنيانه، وهذا ما يظهر الوجه المشرق لقيم الدين الحنيف الذي يمثل واجهة حضارية للإنسان، ولذا يؤكد القرآن الكريم على أن العنف الفكري وإجبار الناس على الإسلام وأحكامه خطوة غير مشروعة {لا إكراه في الدين}، حيث كان الأنبياء والمرسلون (ع) يدعون إلى حصن التوحيد ومكارم الأخلاق من خلال الحوار وعرض الأفكار الداعية إلى ذلك مع بيان النقاط الإيجابية المترتبة عليها، وقد عرض القرآن الكريم كثيرًا من تلك الحوارات التي تمثل الأسلوب الراقي المناسب لمناقشة الأفكار.
وهذا ما يحدو بنا إلى الاقتداء بهم في الخط الرسالي التبليغي لبيان أهمية التمسك بالدين ومردوداته الراقية في صنع الشخصية الإنسانية، فالساحة الفكرية والعقائدية تتعدد فيها التصورات والآراء ولا يمكن تثبيت معالم العقائد الحقة إلا من خلال الاستماع للرأي الآخر ومناقشته والرد على ما يحتويه كلامه من ثغرات ومغالطات، وغير ذلك من الوسائل الداعية إلى الاحتراب والصراع والتناطح الفكري لا يناسب الكيان الإنساني المكرم بالعقل الرشيد، فمن كان مدعيًا لمبدأ ما فلتكن وسيلته الوحيدة إلى بيانه وتثبيته هي الإقناع العقلي.
وفي ساحتنا الفكرية المعاصرة نشهد اشتباكات عنيفة تتخللها تلك الشبهات المطروحة، والتي يؤدي طرحها -دون مواجهتها فكريًا- إلى زعزعة عقائد الناس وحدوث التشوش الذهني، وهذا ما يحتم علينا التسلح بالمعارف الحقة وتكوين قاعدة علمية من خلال المطالعة للكتب، فلا يمكن الثبات في تلك المواجهات الفكرية إلا من خلال عرض مبسط لتلك الأفكار وما تقوم عليه من براهين تحكم وجودها وترسخها، فهذه وسائل التواصل الاجتماعي تبث فيها الكثير من المقاطع المسموعة والمرئية لمختلف التوجهات، وتفنيد الخاطئ منها يحتاج إلى شخصيات تحمل بين جنباتها الجانب العلمي الرصين القادر على المواجهة بعيدًا عن المهاترات، فالشباب المؤمن يحتاج إلى الارتواء من المعين العلمي العذب الخالص من الشوائب، فإذا كان عصر الأئمة ومنهم الإمام الرضا (ع) يعج بالتوجهات الفكرية والعقائدية المختلفة فكذلك هو الحال اليوم وأكثر، وعلينا دراسة أسلوب الأئمة (ع) في مواجهة تلك المدعيات بالحكمة والبرهان الذي يفحم الخصم ويزيح الغشاوة عن بصائر الناس وعقولهم، فالإمام الرضا (ع) خاض تلك المواجهات الفكرية المسماة بالمناظرات مع مختلف التوجهات الفقهية والكلامية والعقائدية، وقد جمع الشيخ الطبرسي (رض) تلك المناظرات والاحتجاجات في كتابه (الاحتجاج)، فجمع فيه الكثير من التراث الرضوي في مختلف المواضيع والقضايا التي طرحت في مجلس المأمون، فكان الإمام الرضا صاحب الكلمة فيها وفصل الخطاب في عرض الأجوبة على تلك التساؤلات والإجابة عنها، مما زاد من قناعة الناس بعد الاطلاع على مجمل مناظرات الإمام الرضا (ع) على أنه أعلم أهل زمانه ولا تغيب عن ذهنه معلومة ولا يغيب عنه جواب سؤال.
لقد سعى الإمام الرضا (ع) في تلك المناظرات لتبيان العقائد الحقة والمعارف القرآنية والعمل على تنوير وتزيين العقول بها، كما عمل (ع) على تفنيد تلك الشبهات والآراء المخالفة للقيم الدينية ودحض ما فيها من استدلالات معوجة بأسلوب حواري هادئ وعقلاني بعيدًا عن حالة التشنج أو التزمت الفكري، حيث كان الإمام الرضا (ع) تجسيدًا للمنطق القرآني ودعوات الأنبياء الداعية للتوحيد والفضيلة على أساس الأسلوب الحواري الحكيم، فانفتح الإمام (ع) على مختلف المذاهب والأديان والمدارس الكلامية والفكرية وتعامل معها على أساس تبيان الحقائق ودحض الشبهات بالحوار والاستماع للرأي الآخر بعيدًا عن الكراهيات والخصومات والصراعات، ومن يقتدي به لابد له من دراسة الأطر التي قام عليها منهج الحوار عند الإمام الرضا (ع) وكيفية عرضه للفكرة بصورة واضحة، ومن ثم بيان أسس تدعيمها بالأدلة بالأسلوب الرصين والرد على الشبهات بهدوء وتعقل.