توثّقت علاقة الودّ والمحبّة بيني وبين السيّد مصطفى، وازدحمت ذاكرتي بالكثير من الأحداث والذكريات، أذكر منها، يوم أن ذهبت إلى مجلس السيّد العام، فإذا به يغصّ بنخبة من الشّعراء والأدباء والمشايخ، كباراً وصغيراً، فلمّا أفشيت السلام، خاطبني السيّد: تعَالَ بجانبي، أيّها الشاعر الشيخ الفرج، وهو يفسح لي في المجلس رغم ضيق المكان.
امتثلت لأمره واتخذت مجلساً بجانبه، وأحسست بإحراج شديد؛ لأنّ الناس كلّهم هناك قد وجّهوا أنظارهم نحوي، وكان عددهم يقدّر بين ثلاثين إلى أربعين شخصاً أو يزيدون، ثم همس السيّد في أذني قائلاً:
أكيد تحمل قصيدة جديدة.
وهو يلتفت إلى جميع من كان في المجلس قائلاً:
هَسَّه، بتسمعوا الشّعر!
شرعت في إنشاد قصيدة أرثي بها السيّد الخوئي (ره)، وقد توفّي منذ أيام قلائل، وقلت في مطلعها:
غَضبَى ليَالِيكَ هَل نَامَت بهَا الشُّهبُ
أم هَل ذَوَى في هُدَى تَرتِيلِكَ القَصَبُ (١)
فتفاعل كلّهم بشكل عجيب، يطلبون منّي إعادة الأبيات مرّة ثانية وربما ثالثة، حتى فرغت من إنشاد القصيدة.
فرقٌ بين الشّعر والنّظم!
وكأني أستعيد شريط ذكرياتي يوم كان أحد طلبة العلم الحضور ممن تفاعل مع قصيدتي، أن قال للسيّد: عندي قصيدة، بعد إذنكم ألقيها، فأذن له السيّد.
ما إن سمع السّيد مطلع تلك القصيدة، حتى بادره قائلاً: لو بدّلت هذه الكلمة، لكان أحسن!
ثم قرأ البيت الثاني واعترض عليه السيّد، وهكذا كانت الإشكالات تترى على أكثر أبيات القصيدة التي لم يكن الشاعر موفّقاً في نظمها، فليس كلّ كلام موزون ومقفّى يُعدّ شعراً، فكلّما كان الشاعر مطبوعاً يكتب من غير تكلّف، حريصاً على تصيّد المفردات الشّعرية، وراسماً صوراً شعرية مبتكرة، كان ذلك أدعى إلى استحسان القصيدة وقبولها من الشعراء ومتذوّقيه.
إلّا أنّ هذا الفكر ربما كان غائباً عن ذهن صاحبنا الشاعر (الطالب الحوزوي)، واعتبر توجيهات ونقد السيّد له ضرباً من النقد الهدّام، ما أثّر هذا على مشاعره نحوي، وانعكس على سلوكه معي، حتى بات يأنف من مصافحتي كلّما التقينا، أو يضطر أحياناً إلى السّلام ببرود، وكأنّي السّبب في عدم توفيقه وتميّزه.
تأبين السّيد عبد الزهراء
في يوم من الأيام الحالمة صافحت السّيد مصطفى، وطلب منّي أن أشارك في تأبين السّيد عبد الزهراء الخطيب بقصيدة رثائية، وذلك لمرور الذكرى السنوية الأولى لرحيله، حيث كانت الفاتحة تقام باسم السّيد مصطفى جمال الدين، وتحديداً في الحسينية الحيدرية في حيّ السيدة زينب (ع)، فاستجبت لسماحته بالسمع والطاعة دون تردّد، فأنّى لمثلي أن يرفض تلبية هذه الدعوة ذات المقام الرفيع في شأن الداعي وشأن المدعو إليه!
تناولت قلمي واستجمعت قواي الفكرية واستحضرت ما اختزنته ذاكرتي من مفردات وصور وخيالات، وكتبت حتى أتممت القصيدة، ومنها هذه الأبيات:
عَامٌ فَرَشْنَاهُ آهَاتٍ وَأَنَّاتِ
صَلَّى بِذِكْرَاكَ فِي جَهْرٍ وَإِخْفَاتِ
نَحْنُ الْقَرِيضُ نَسَجْنَا مُشْتَهَى دَمِنَا
مُـمَـوْسَقًا فِيكَ أَبْيَاتًا بِأَبْيَـــاتِ
وَمَا ذَرَفْنَا دُمُوعًا كَي نُلَوِّنَهَا
إِلَّا وَسَابَقَهَا خَمْرُ الْحُشَاشَاتِ
نَحْنُ الْمُحِبُّونَ لَا نَرْضَى الرِّثَاءَ لَنَا
رِثَاؤُنَا غَزَلِيُّ الطَّبْعِ وَالذَّاتِ
وَأَنْتَ أَرْوَعُ مَنْ نَسْقِيهِ قَافِيَةً
ذَابَتْ عَلَيْهَا أَحَادِيثُ الصَّبَابَات
وَأَنْتَ أَرْوَعُ مَنْ نُسْقَى مُرَوءَتَهُ
وَهَلْ تَغِيضُ يَنَابِيعُ المُرُوءَاتِ
وقد شارك السّيد مصطفى بقصيدة عصماء في احتفال آخر، وهو الأربعينية لرحيل السيد عبد الزهراء الخطيب (ره)، ومنها هذه الأبيات:
كيف تَنسى دموعها الآماقُ
والفقيدان نبله والعراقُ
والثكالى نحن الألى غاض منّا
رافداه: الفراتُ والأخلاقُ
واغتربنا فلم نجد في منافيـ
ـنا بديلاً يلذّ فيه المذاقُ
قد شبعنا من الضّياع وجعنا
من فتاة لنا عليه استباقُ
وكراماتنا نكاد نزكيـ
ـها اختلاساً كأنّنا سُراقُ
وحصدنا زرع الوعود وذرّيـ
ـنا فلم يَبقَ منه إلّا النّفاقُ
*اختلاف لا خلاف!*
ذهبت عصر ذات إلى مجلس السّيد مصطفى بغرض استشارته في مشروع رأيت تنفيذه، حاملاً معي دفتر قصائدي، فسألته مستشيراً:
ما رأي السّيد في طباعة قصائدي ونشرها؟
تصفّح الدفتر فترة زمنية محدودة، وأجابني:
نصيحتي لك ألّا تهتم بطباعة قصائدك، فهذا أنا ذا لم أطبع قصائدي في أيام الشباب، ولم أهتم بذلك، ولما كبرت وصار عمري أكثر من سبعين سنة، الآن أختار بعض قصائدي وأنشرها، وليس كلّها، أنا الآن أجمع شتات عمري، ويمكن أن يطبع في بعض الأشهر أو سنة قريبة (٢).
أقول: نختلف مع السّيد في بعض الجهات، ونتفق معه في أخرى.
أما الاختلاف معه، فذلك لأنّ الشاعر يمرّ بمراحل زمنية طويلة، وتتشكل أطوار مختلفة، فيفترض في كلّ مرحلة زمنية مؤقتة، يبادر إلى طباعتها، فيحفظها التاريخ شاهداً على مستوى نضج الشاعر والمرحلة التي يعيشها، حتى يتجاوزها ويرتقي عتبة أرقى من سابقتها، مستفيداً من الخبرات الماضية، ومجتهداً في تطوير شاعريته.
كما أنّ الناقد يكتشف تطورات الشاعر ونضجه وما يطرأ بمرور الزمن على حالاته النفسية ومعجمه الشعري – لغةً وخيالاً- من حيث السّعة والضّيق، وما أشبه ذلك.
وعلى أيّ حال، لما خرجت من سورية متوجّهاً إلى الوطن الحبيب، بغرض الزواج، ثم الانتقال إلى مدينة (قم المقدّسة)، سمعت خبر طباعة ونشر ديوان السّيد مصطفى، فتمنّيت أن يكون بين يدي في أسرع وقت ممكن، لا سيّما وأنّ الشاعر الناقد ثامر الوندي، وكان آنذاك في مدينة قم، يقول:
إنّ ما كتبه سماحة السّيد مصطفى في مقدّمة الديوان التي بلغت 100 صفحة، أكثر أهمية من قصائد الدّيوان نفسه.
(١) كذلك حالفني التوفيق في إنشاد قصيدتي المذكورة في رحاب حوزة المرتضى (ع) بحضور المرجع السّيد محمد حسين فضل الله (ره)، وعقّب بعد سماعها قائلاً:
(أنت مشروع شاعر)، كذلك ألقيتها في مجلس السّيد سعيد الخباز بحضور الشيخ الوائلي (ره) ونالت استحسانه.
(٢) لم يذكر لي سماحة السيد ديوان (عيناك واللحن القديم) وهو من لا يزيد عن 100 صفحة، وقد طبعت وهو في ريعان الشباب.
من كلمات الشاعر الكبير مصطفى جمال الدين : ( ثلاثة أقلام كان لها الدور المميز في أغناء المكتبة العربية بهذا النهج البلاغي العظيم : الشريف الرضي في اختياره .. وابن أبي الحديد في شرحه .. والسيد عبد الزهراء الحسيني في رد الشبهة عنه )