بالحب نحميها

هل فكرت يومًا بأهم العوامل التي تحمي أسرتك من التشتت والضياع والخلافات؟
ما نراه اليوم من حال مزر للعلاقات بين الإخوة في صلتهم وتواصلهم مع بعضهم أو على مستوى البر أو القطيعة مع الوالدين، يبعث -لأول وهلة- على الدهشة من ذلك التغير المفاجئ للعلاقة التي تجمع أفراد الأسرة، وقد قضوا سنين عديدة تحت سقف واحد ويرون بعضهم في معظم الأوقات، ولكن تأتي من المواقف ما يظهر النار المتوارية في وسط ركام الرماد.

فنرى هشاشة في التواصل وقد تبلغ نهايات السوء من مشاحنات وخصومات تبلغ حد القطيعة، وبلا شك أن لذلك عوامل متعددة تعمل على تدمير سور الأسرة الحصين وتعكر صفو العلاقات، ونتناول عاملًا واحدًا في هذه الكتابة وهو غياب المشاعر العاطفية بين عمودي الأسرة ومن ثم حرمان الأبناء منها؛ مما يتولد عندهم -حينما يكبرون- حالة من التباعد وتبلل الأحاسيس تجاه بقية أفراد الأسرة، ولا يعير اهتمامًا بأحوالهم وحاجاتهم ويغيب التواصل بينهم إلا فيما ندر، ويبدأ في حالة العتاب مسلسل الأعذار والحجج الواهية من كثرة المشاغل والمشاكل!

ونجد اليوم الكثير من المشاكل الناجمة عن تفكك عرى المحبة والتعاون بين أفراد الأسرة، والتي قد تصل إلى حالات مخاصمات تصل إلى أروقة المحاكم، وتغيب مظلة التكاتف بين أفراد بعض الأسر، فلا يشعر الأخ بما يعاني منه أخوه من مشاكل دراسية أو اجتماعية أو مالية، كما أن حالات عقوق الوالدين والخلافات حول الميراث بين الإخوة وغيرها؛ تدعونا للبحث عن عوامل التفرق والخلاف، لنتصور أن الرابط بين أفراد الأسرة مشاعر المحبة والاحترام والتفاهم والتحاور حول المواضيع المختلفة، لكان ذلك عاملًا في تجنب الكثير من حالات الجفاء والأنانية والخلافات الأسرية.

ولو تصورنا الحالة النفسية والوجدانية لأبناء يعانون من الحرمان في مشاعر الود والحنان والاحتواء، فتغيب عن تفاصيل حياتهم التعامل بالحب من قبل والديهم في أثناء ذهابهم للمدرسة وحتى عند مجيئهم منا، فضلًا عمّا يسود علاقة الزوجين أنفسهما من حدة في التعامل، وغياب للمشاعر؛ مما يجعل ذلك البيت محيطًا يشعر فيه كل فرد بالغربة، ولا يلتفت الزوجان للجناية الكبرى التي يرتكبانها بحق أبنائهما عندما يفقدونهم أهم مقومات التوازن في الشخصية وهو الإشباع العاطفي.

فالمشاعر العاطفية والتحنن مع الأبناء ليس بأمر مثالي أو ترف كمالي يعزف عنه الآباء والأمهات، بل هو الأكسجين الذي يتنفسه الأبناء في ظل ضوضاء الحياة والظروف القاسية التي تمر بهم، فالتعبير عن مشاعرك تجاه أبنائك يكسبهم ثقة في النفس ويتطلعون بمحبة تجاه بعضهم البعض، وتقدم لهم أهم عوامل النجاح في علاقاتهم الأسرية والاجتماعية مستقبلًا، فإن أحد أسباب الانحراف الأخلاقي والانجرار خلف أصدقاء وصديقات السوء هو البحث عن الشعور بالمحبة والمقبولية تجاهه، فيعوض حالة الحرمان التي يعاني منها في محيط أسرته.

والدعم العاطفي الذي يتلقاه الأطفال من والديهم يؤثر بقوة في علاقاتهم الاجتماعية، فيألفون من حولهم من الأقران ويستطيعون أن يعبروا عن مشاعرهم تجاه من ينسجمون معه فكريًا واجتماعيًا، بل وحتى على مستوى الأداء المدرسي نلاحظ الفرق الكبير بين طفل يغادر بيته بعد تلقيه العبارات الرقيقة وبين طفل يواجه في أغلب الأيام عنفًا لفظيًا، إذ التهيئة النفسية للتعلم والتربية السلوكية تبدأ من شعور الطفل بأنه محبوب متى ما تجنب السلوكيات والعادات الخاطئة، وأما الطفل المحروم عاطفيًا فيغلب عليه سلوك العدوانية وعدم المبالاة بالقيم والآداب المجتمعية.

الأمان العاطفي والطمأنينة النفسية من أهم اللوازم للطفل وتفوق الحاجات المادية والترفيهية -مع أهميتها-، فالتودد للأبناء وتبادل المشاعر العاطفية معهم بلمسات التحنن والكلمات الرقيقة تكسبه القوة والإرادة الصلبة في شق طريقه في الحياة، وتحمل المسؤولية تجاه المشاكل التي يواجهها، وتساعده على تفريغ شحنات الانفعال الشديد والإرهاق النفسي من يوم دراسة مزدحم بالمعارف والمهارات.

وهذا الدعم العاطفي من الوالدين ينعكس على تعامل الأبناء مع بعضهم والشعور بوجود الآخر والعمل على إسعاده وتخفيف التوترات عنه، فمهما كانت الأزمات التي يواجهها أحد أفراد الأسرة سيجد الكل يهرع لمساعدته والاستماع له، والعمل بنحو جماعي لمعرفة الأسباب والبحث عن حلول ممكنة، مما يجعل الاستشارة والحديث عما يجول بخاطره سلوكًا يتعزز عنده يومًا بعد يوم، فالتماسك والألفة الأسرية لا تتحقق بالعيش تحت سقف واحد، بل هي التقاء الأرواح المتصافية التي تشعر بمحبوبية من الجميع.



error: المحتوي محمي