في ليلة التاسع عشر من شهر جمادى الأولى من سنة 1433 للهجرة النبويّة الشريفة، الموافق الحادي عشر من شهر أبريل لسنة 2012م، في ذاتِ مُطالعةٍ لقصيدةٍ نُشرَتْ آنذاك في وسائل التواصل الاجتماعيّ، تحملُ شيئًا عن تاريخ القطيف وعلمائها؛ اقترحتُ في مجموعةٍ واتسابيّةٍ خاصّةٍ بسماحة سيّدنا الحجّة السيد المنير الخبّاز-دامت أيّام بركاتِه وعطاءاتِه-، إعادةَ طباعة أرجوزته الشعريّة عن القطيف وأعلامِها، التي كنتُ أحتفظُ بنسخةٍ مصوّرةٍ منها كانت مكتوبةً بالآلة الطابعة، منذ أن كنتُ طالبًا على كراسي الدراسة في المرحلة المتوسطة 1413/1414هـ، قمتُ بتصويرها عن نسخةٍ كان يحتفظُ بها أخي الأكبر.
كان منبر سماحة السيّد-حفظه الله- وأنا على مشارف سنّ التكليف يأسرني بأسلوبه ووفائه بجميع جوانب الخطاب المنبريّ، ولا تزال تعلق بمسامع الذاكرة منّي الأبياتُ التي يستهلّ بها خطابتَه، التي لم أكن أسمعها إلا تحت منبره المبارك، ولم أعرف سرّ ذلك إلا بعد أن انخرطتُ في أعمالِ “الأرجوزة”، وترجمةِ شعرائها المذكورين فيها، فعرفتُ بأنّها كانت قصائد لشعراء قطيفيّين معاصرين، وقلّما تجدُ خطيبًا يعمدُ إلى ذلك-آنذاك-. أذكر هذا الاستطراد لأكشف عن سرِّ احتفاظي بمصوّرة هذه” الأرجوزة” وأنا بذاك العمر، الذي يصعب عليّ معه إدراك كثيرٍ من إشارات أبياتها ودلالاتها التاريخيّة المقتضبة.
لقي مقترحي جميلَ استجابةٍ من سماحة سيّدنا الناظم -طابَ مدادُه-، ومن العجيب أنّه لم يكن محتفظًا بأيٍّ نسخةٍ منها، فَسَرَّ بوجودها عندي، وكانت في “500” بيتٍ شعريًٍّ، فقمتُ بتبيِيضِها وإعادة ضبطها بالشكل، وعرضتها على سماحته، فرغب بتجديد بعض أبياتها، وترقيق استهلال كلّ مقطوعةٍ منها، وإضافة بعض الأعلام من علماء وخطباء وشعراء وأدباء، كما وشّحها بذكر كثيرٍ من عيون البلدات في المقطوعة الخاصّة بكلٍّ منها، فأضاف عليها “267 بيتًا” ليصبح مجموع أبياتها “767 بيتًا”، وهنا أضع مقارنةً بين تفاصيل الأرجوزة الأصل، والمجدّدة التي قد يطرأ عليها الخرم والبرم بما ستسفر عنه تدقيقاتها في المستقبل القريب -إن شاء الله-.
وقد نُشرت هذه الأرجوزة التاريخيّة بمجلة” الموسم” الشهيرة، في عددها “18” سنة 1994م – 1414هـ، تحت عنوان “الطراز المنيف في أحوال القطيف” في تسع عشرة صفحةً.
هذه الأرجوزة الشعريّة، بشموليتها التاريخيّة التي ابتدأ التأريخ فيها من “العصر النحاسيّ”، وما مرّت فيها من أقوام قطنتها من الكنعانيّين والعمالقة وقبيلة عبد القيس العريقة، وما ولّده هذا التعاقب من حضاراتٍ ومخاضاتٍ ثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ انعكست على واقع القطيف الأدبيّ والثقافيّ؛ تُقدِّمُ إلى القارئ مائدةً متخمَةً متصلةً بالإرث التاريخيّ والأدبيّ الكبيرين، وكلّها قد سُبكتْ في قالبٍ شعريٍّ رقيقٍ، مسكَ بزمامها سماحة سيّدنا الناظم، جامعًا بثراءٍ معرفيٍّ الحركةَ الثقافيّةَ في “القطيف”:
– في الحقل العلميٍّ؛ بتراجم أكابر علمائها الأعاظم، وفضلائها الأكارم.
– وفي الحقل المنبريّ؛ بالإضاءةِ على كثيرٍ من نجوم المنبر الحسينيّ الشريف وحفظة أعواده.
– وفي الحقل الأدبيّ؛ بتَتبّع شعرائها منذُ عصر الجاهليّة، وما تبعه من عصورٍ إسلاميّة، وانتهاءً بالمجدِّدين والمعاصرين، وأصحاب القلم والصحافة.
ومن اللافت الذي سيقف عنده قارئ الأرجوزة، هو النَّفَس الأدبيّ الشاعريّ الرقيق في كثيرٍ من أبياتها، خصوصًا تلك التي تتكلّم عن وصف” القطيف” وبلداتها، وجريان عيونها، واخضرار أشجارِها ونُخيلاتها، وما عرضه عن شاعريّة شعرائها من المتقدّمين والمتأخّرين، على خلاف عادة الأراجيز، التي تكون خاليةً من الوصف والعاطفة ركنا ناصية الشعر وقَوامُه، وهي بذلك تعدّ أحد نتاجات ناظمها الأدبيّة، التي ترسم بعضًا من ملامح شاعريته الطافحة في جنباتها.
وقد شرّفني سماحة السيد الناظم -دامت بركاته- بالاضطلاع بمهمّة التعليق على أبياتها، وتذييلها ببعض الشروحات اللازمة، وتراجم أعلامها الذين جاوزا المئات، ولكي لا نجازف بذكر تعدادهم، أرجأنا تعدادهم إلى الإحصاءالدقيق بعد عمل الفهارس الفنِّيّةٍ الدقيقة -إن شاء الله-، ولم أزل أعمل على إنجازها منذ عشر سنوات، مع ما يواجه هكذا أعمال من عقباتٍ كؤودة في سبيل الحصول على معلوماتٍ موثّقةٍ، وتواريخ دقيقةٍ، وسعيٍ حثيثٍ إلى إضافةِ الجديد الذي لم يكتب ولم يُطرق من قبل، مع كثيرٍ من سخاء بعض الأحبّة من أهل التحقيق والتدقيق، الذين لم يبخلوا عليّ بتصوير بعض المصادر من مكتباتهم الخاصّة، ورفدهم لي ابتداءً بما هو في مظانّ الإفادة، وعلى رأسهم الأستاذ القدير نزار آل عبد الجبّار -دامت فوائده-، وما أمّن لي شراءه الأستاذ حسن آل حمادة -دامت توفيقاته- من الكتب القطيفيّة النادرة في المكتبات.
وها قد اقتربتْ نظم أعمالها من النهايات، فنسأله تعالى أن يُيسر لنا نشرها في قابل الأشهر القادمة، وأن يروي ظمأ المتعطّشين لرؤيتها مطبوعةً، وأن يقرّ أعيننا وأعينهم بصفحاتها المضيئة التي تشدُّنا إلى التفيّؤ بظلال الماضين، وتدفعنا إلى بناء مستقبلٍ عزيزٍ بتاريخهِ ومنجزاتهإلى فلذات أكبادنا، وأختم بما استهلّ به سيدنا الناظم -طاب يراعه- أرجوزته:
أحْمَدُ ربِّي وأُصَلِّي أبَدَا
وَأسْتَعِينُ اللهَ في أُرْجُوزَهْ
نَظَمْتُها حِفْظاً لِتَاريخِ الوَطَنْ
عَلَى مُحمَّدٍ وَأرْبابِ الهُدَى
عَنِ القَطِيْفِ أُمِّنَا العَزِيْزَهْ
وَهْوَ عَرِيقٌ خاَلِدٌ مَدَى الزَّمَنْ