تتوزع وسط ربوع البساتين أكواخ من سعف وجريد، لا تقي حرًا ولا تدفع بردًا، تبلى من زخات مطر واشتداد شموس الگيض، لا يدوم بقاؤها طويلًا فتبنى من جديد، بعض البيوتات على هوامش الطرقات منسية هي وأهلها، تتآكل وتتداعى على أصحابها والملجأ لحاف الريح.
شظف العيش أنهك حياة الأجداد، أيام صعبة قدت من تعب وشقاء، يتنفسون الصعداء لحظة استنادهم على جذع نخلة، أو ظل هاربًا من أزمنة القحط، ينفثون الآهات بتنهيدة خيال: “علمي بريحات قلبي يوم هلي يربوني يوم طولي شبر”، مثل دارج على الألسنة يتمنون العودة أطفالًا تحملهم أكف الوالدين والأهل، أمنية لفظية هربًا من قسوة الحياة التي لا ترحم أحدًا ولو عبر حلم يقظة، لكن هذا التمني موضوع على كف القدر، فالمحظوظ من خرج من أمراض الطفولة المهلكة وهو معافى ولم يصب بشلل أطفال، أو كساح أو حصبة، أو جدري، أو عمى، وحتى أمراض الشتاء تدق ناقوس الخطر بحصار البراءة، تغيب أنفاسهم لا يهجعون ساعة، والأمهات في سهر ومداراة طوال الوقت خوفًا من لحظة الانطفاء.
كم أم فجعت برحيل فلذة كبدها وهو بين يديها، نتيجة اشتداد سعال، أو ارتفاع حرارة، أو إنفلونزا، لا طبيب تلجأ إليه ولا مركز صحي يداري ظناها ترحل نفس غضة في لمح البصر، ورود لم تتفتح بعد، ذبلت وغادرت الحياة، كم من البيوتات ضجت بنحيب الأمهات، عن فقد مولودهن الأول والثاني والثالث، أرواح خضراء لم تبلغ الحبو ولم تكمل الفطام، لا الصيف هون عليهم المصاب، ولا الشتاء رحم.
تقول والدتي وهي تجر الآهات: “الجهال الأول في شدة وهلاك، من يجي موسم لشتا كل أم تحط إيدها على قلبها، جهال في لگماط وأولاد توهم في لشهور الأولى يتصارخون ويتعفرون من الگبضية -الإنفلونزا- أدوخهم تدويخ، ويفطسهم أبو لحلوگ -التهاب اللوزتين- ما ينامون ساعة، إذا دق عليهم الكزوزو -السعال الشديد- يقأويهم بفلافة لشهر وأكفر، يسكنوا اشوية إذا سقوهم حليب الحمير، كم جاهل مات بسبب الگبضية في أيام المرابعين وحتى أيام لخواهر تقتلهم الحصبة وينترس جسمهم بالحصف، والجدري يدوخهم والرمد يعمي لعيون، وإذا سننوا يجيهم زوع وحلول، الأول عيشة النسوان مكدرة وشيب رأس، من تحمل لزين تولد، إبها تعيش لو ماتعيش، چم مرة تعسرت وماتت ويا ولدها، يقولون ويش أصعب يا رسول الله، قال: “خروج الروح من الروح”، وإذا نجت وعاش ليها ولدها آية من الله، ونعمة من رب العالمين”.
صريخ وعدوى وفقر وألم وشقاء وتعب وفقد، هي حياة نساء الأول، معلقة بالأخطار من بدء الحمل إلى لحظات الولادة، وسنين الربى شدة وعسر وظنك، لا مستشفيات تأسست لترأف بالحال وتهون الخطب، ولا أثر للطبيب المداوي، من يقمن بالدور قابلات الحي، والأدوية العشبية حاضرة، وهناك من يعيش في العشش المنسية يقضون نحبهم دون التمكن من شراء عشبة دواء، أمهات بكت ونزفت دموعًا وحسرات، على أروح ودعت الحياة بين الأكف وبساط المهد، مقابر أطفال توزعت عند محاريب المساجد، إن نجى طفل من مرض تربص بأمه أو أباه، البؤس أقضى المضاجع والفقر نهش الأبدان.
تخبرني والدتي عن أمراض فتكت برجال ونسوة، تلك امرأة سقطت على عتبة دارها في عز الشباب، وعريس لم يتهنأ بليلة عرسه، ونائم لم يصح من رقدته، جملة مواقف لأنفس رحلت دون مرض ظاهر، أو علة ملموسة، ارتحالات مباغتة تدمي القلب، وأية مأساة حلت بسكان الجزيرة قبل 100 عام زمن الشيخ عبد الله بن معتوق، تلك سنة مخيفة مرعبة مزلزلة، قصفت بأعمار في غضون مدة وجيزة، يعاجلها تعب وإعياء ودوخة يعقبه انهيار في كل مفاصل الجسد، ساعات من نهار تساقط القوم صرعى، حتى حفاروا القبور لم يهدؤوا لحظة، جثث ملاقاة في البيوت لا يوجد أحد من يشيعها إلى مثواها الأخير، من كثرة انشغال الأهالي بالدفن، قبرت أنفس على عجل، وبني عريش متحرك ينقل مع حفر لحد جديد؛ للتخفيف من وهج حرارة الشمس، مرض خفي أطلق عليه شعبيًا “مرض الوهم”، وباء انتشر وقضى على أنفس عديدة، تعب من تعب من كثرة الصراخ والنحيب على فقد الأحبة.
الأحياء حاصرهم الرعب والقلق، كل متوجس خيفة من مداهمة الموت له في أية لحظة، استشعر البعض بأن علامات الظهور تلوح في الأفق، آخذ نفسا عميقًا والملم أحاديث والدتي المبعثر حول مجتمع الأمس وصراعاتهم مع الأمراض التي فتكت بالعباد، من نجا منها وعاش هذا كرم من الله، وبتوفيق منه تم التعامل مع بعضها حسب اجتهاد المعالجين الشعبيين، وثمة أمراض تركت أثارًا على الأجساد، من تشوهات وعاهات مستدامة، وأخبرتني والدتي عن اسم المرض الذي ألم بجدتها، أم والدها الحاجة “آمنة بنت حجي محمد زريع”، والتي وصفتها بأنها امرأة قوية ذات حسن وجمال، تزوجت ثلاث مرات ولم ترزق إلا بثلاثة أولاد، الأول لم تنجب منه شيئًا بعد عشرة بسيطة رحل إلى رحمة الله، والثاني حسين آل هبوب وأنجبت منه محمد وبعمر عام رحل هو الآخر عن الدنيا تاركًا الصغير مع أمه، الذي ورث الجمال منها، وعنه تقول والدتي مريم “أبوي عيونه فساح وخشمه دقيق وأبيض، ونبوي” أي خفيف الشعر في مقدمة الرأس -وحين مات أبوه وهو ابن سنة واحدة، تزوجت أمه حجي قاسم بن حماد وأنجبت منه حسن وسلمان لكن الولد الأخير ما كمل عامه الأول صرعه المرض وفارق الحياة.
“بكت الأم طفلها الرضيع ولم ترزق بغيره وبعد مدة ليست بالقصيرة حاصرها مرض اقعدها دون حراك، يسمى شعبيًا “خيمة لسگه”، ينتفخ الجسم بالكامل مثل البالون، الأيدي والأرجل والصدر والبطن وحتى الوجه، الغريب بأن وضع الانتفاخ ليس ثابتًا متأرجحًا بين هبوط وصعود، مرتبط بحركة كونية، إذا كان البحر في حالة الجزر “فبر” ينخفض الانتفاخ ويعود الجسم لشبه وضعه الطبيعي، وإذا كان البحر في حالة المد “سقي”، يرجع الانتفاخ في كامل أعضاء الجسد الظاهرية! ويقعدهم عن الحراك، والمصابون بـ”خيمة لسقا ” تنازعهم خلال سبعة أوتسعة أشهر ثم تنتهي حياتهم، ارتحلت جدة أمي آمنة”وهي “مستخيمة”.
وعن هذا المرض، الذي ارتبط في ذاكرة والدتي عن قرب، حين بلغت من العمر ثمان، كانت برفقة أمها تزور جارتهم المريضة في أحد بيوتات فريق الأطرش حيث تقول: “شفت بدرية ام أحمد سالمية، مرة حجي عيسى بن سالم، جتها خيمة لسگه ورگدوها في مستشفى الدمام المركزي، توه فاتحينه على زمن الملك سعود، اعلاجات وروحات وجيات، تالي عجزت عنها الأطباء، وهل عليها شهر رمضان وهي بشدة المرض ما عندها گوة الصيام، وگالت إلى زوجها، ما أدري أعيش إلى رمضان الفاني لو ما أعيش، إذا الله استخارني صوم عني شهر الله، گأومت المرض سبعة شهور وتالي الله استخارها، بكت نسوان الفريگ عليها، إنسانة طيبة واجد رحمة الله عليها “، بعد التحقق من كلام والدتي أوضحت لي بأن هذه المرض الذي طرح أجسادًا كثيرة المسمى بـ”خيمة لسگه” هو مرض “داء الفيل”.
وأيضًا مرض آخر فتك بالأجساد وهو “السرطان”، أطلق عليه الأولون مسميات عديدة: إذا جاء في الرقبة اسمه “الخنزيرية”، وإذا استوطن الجهاز الهضمي سموه “خيمة الكبدية” وإذا سرى في الجسم أطلقوا عليه “الشگره”، بين الحياة والمرض تلجأ النفوس بالتوسلات وطلب الشفاء من الله، أكف مع صوت كل أذان ترتفع عاليًا بالدعاء حتى غياب النفس، رجاءات كالمدد بطلب الصحة وحفظ الأعمار وبعد الانتهاء من كل صلاة، تلك أكواخ ضمت الأنين والنحيب وآهات اللذة والألم والنخل شواهد.