حفظنا رأسنا من لساننا وقطعناه بأيدينا!

كنا نمشي صباحَ اليوم، والأشجار تضج بأصواتِ العصافير، فقلتُ لصاحبي: أتعلم أن بلاء هذه العصافير من تغريدها وزقزقتها؟ لو صمتت كان أخير وأسلم لها، ولما عرف الصيادُ مكانها. لا يرى الصيادُ عصفورًا صامتًا مغلقًا فمَه فوق شجرة، أما إذا غرَّدَ العصفورُ وعلَّى صوته، رماه الصيَّاد واصطاده. أنا وأنتَ أيضًا يصير الصيَّاد فخورًا برأسنا إن مكنَّاه منه بلساننا!

ليت الرأس إن سلمَ من اللسان، يسلم من الأصابع! في الأيَّام الخوالي كنَّا نتكلم -فقط- بلساننا، لا يسمعنا سوى من هو قريبٌ جدًّا منا، أما البعيد فلا يسمعنا. في هذه الآونة، اللسان عبدٌ آبق من سيده، والأصابع أيضًا تتكلم. كلنا نكتب وكلنا نحكي، وكل ما نقوله يطوف الدنيا من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها في ثوانٍ معدودات.

لم يعد شر المنطقِ حكرًا على اللسان، فأكثر البلاء في هذا الزمان من منطق الأصابع والآلات. انظر لما يحدث الآن؛ يجلس أحدنا في داره يظنّ أن العالم لا يسمعه، فإذا هو ينسج علاقات، يعقد صفقات، يصنع صداقات ويَخلق عَداوات!

يقول رسول الله (صلى اللهُ عليه وآله): “سلامة الإنسانِ في حفظ اللسان”. سيِّدنا، مولانا، لو كنتَ بيننا في هذا الزمان، سوف نسألك: فقط اللسان؟ أم كل آلةٍ ينبعث منها الكلام؟ منطوقًا أو مكتوبًا! دقق النظر جيدًا ترى في كثيرٍ مما يُقال ويكتب ويصور، التفاعل السلبيّ، القطيعة والتباعد ونشر الغسيل على الحبال، لا أسرار ولا خصوصيَّة لأحد، كل شيء تحتَ الشمس.

ما أكثر توصيات النبيّ والأئمة والمفكرين بحفظ اللسان، والتفكير قبل الكلام! توصيات تحكي حالنا اليوم، مع أنها قيلت قبل مئاتِ السنين. يبدو أن الإنسان ومنذ القدم قليل الفكر، قليل الصمت، كثير الكلام! هذه التوصيات، لا تعني أن نكون صمًّا بكمًا، بل تعني أن نفكر ثم نتكلم. إن لم نتكلم في محلّ الكلام كنا شياطين خرس.

أجمل الكلام في كلِّ زمان ما بعثَ رسائلَ سلامٍ واطمئنان، يؤلف ولا يفرق، يُصلح ولا يفسد، يجمع ولا يطرح. أما غير ذلك من الكلام فهو الذي عبَّر عنه أمير المؤمنين عليه السلام: “كُن في الفتنة كابن اللّبون؛ لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب”.

إذا لا ينفعني الكلام ولا يعنيني مررتُ عليه مرورَ سحابةٍ خرساء. بذلك أحفظ رأسي، أحصّن نفسي، وأصون عرضي من علاقاتٍ بدايتها كلامٌ باللسان وطَقطقة أصابع فوق لوحة مفاتيح الحروف، والله وحده يعلم أينَ وكيفَ تنتهي!



error: المحتوي محمي