ربما كان من حسنات المناسبات الاجتماعية (الرياضية بالتحديد) أنها تجمع كافة الشرائح الاجتماعية، ليس على صعيد السن والمنصب والعائلة والمستوى المادي فقط، بل إنها جاذبة للفئات ذات الاحتياجات الخاصة -حسب المصطلح- أو ما يراد أن يطلق عليهم بـ«ذوي الهمم»، وذلك ابتعادًا عن كلمات “معاق أو معوّق” التي تحمل معاني تنم عن فوارق إنسانية، أو تدعو للفصل بين أبناء الجنس البشري الواحد.
ونقف اليوم على تجربة واحد من بين الذين نجدهم حاضرين وبفاعلية في المناسبات الاجتماعية؛ ألا وهو جاسم بن عيسى الأبيض، من أهالي جزيرة تاروت، الذي يعد أحد العلامات البارزة أو الفارقة في دورة كافل اليتيم لكرة القدم بجزيرة تاروت (كافل)، فهو -كما يبدو- المصوّر الأبرز، والحاضر الدائم في هذه الدورة، فهو يأتي قبل بدء اللقاءات الكروية في الدورة؛ إذ يحضر أرضية الملعب عند الساعة السابعة ليلًا، ولا يغادر الملعب إلا بعد نهاية الفعاليات في حدود الساعة الحادية عشرة ليلًا.
هذا الشاب العصامي، يعاني من إعاقة سمعية ونطقية، جاءت معه منذ الولادة، وهي تعتبر حالة وراثية؛ فهو أخ شقيق ضمن عشرة أشخاص هو الخامس من بينهم نصفهم يعانون الحالة ذاتها، وبحكم التغطية اليومية لهذه الدورة والفعاليات، كان لا بد أن يتم الوقوف أمام هذا الرجل الظاهرة، الذي يقوم بالتصوير الفوتوغرافي.
فما هي قصة هذا الأبيض ذي الهمة العالية؟
كان اللقاء معه على هامش أحد اللقاءات -أو المباريات- وكان ابنه الوحيد مهدي حاضرًا اللقاء فهو الذي يقوم بدور الترجمة عبر لغة الإشارة التي يتقنها الوالد والولد، وقد حضر أيضًا أحد زملائه وأصدقائه ممن يعانون الحالة نفسها.
الكاميرا وسيارة الكابرس
حكى الأبيض قصة علاقته مع الكاميرا والتصوير، بل وقصة حياته، كيف تخطّاها بنجاح، رغم ظروفه المادية والمعنوية الخاصة، حيث يقول بأنه ومنذ أن كان صغيرًا لما يبلغ العشرين من عمره كان يرى في المسجد أناسًا يقومون بعملية التصوير للخطب والمناسبات والفعاليات التي تحدث عادة في المساجد، خصوصًا في أيّام الجمع والأعياد والمناسبات الكثيرة في محافظة القطيف (ومنها جزيرة تاروت)، حيث كان يراوده أمل بأن يكون “مصوّرًا” مثلهم، ويتطلع لأن يتعرّف على شخص ما من هؤلاء يعلّمه التصوير، كي يقوم بالمهمة، ويشاركهم هذه الهواية الجميلة، ولمّا لم يحصل على مراده، ولم يتمكن أن يوصل فكرته وطلبه لهؤلاء المصوّرين أو المتعاملين مع الكاميرا والعدسة، قرّر أن يعتمد على ذاته، فقام يجمع ما يمنحه والداه له من مصروف يومي، حتى جمع 300 ريال وقام بشراء كاميرا متواضعة، تفي بالغرض المطلوب، وتتيح له الفرصة كي يمارس هذه الهواية، ولم يتعلّم من أحد سوى أن أحدهم وهو جاسم البيابي قام بتعليمه كيف يركز مربع العدسة على المشهد المراد التقاطه، فكانت أول صورة له هي سيارة أمريكية الصنع من طراز “كابرس” ظل يأخذ لها عدة صور ويعيدها لأكثر من مرة حتى أتقن عملية التصوير.
وقال بأنه -وبعد شراء الكاميرا- ولأنه يحب الرسم كما يحب التصوير فكان يقوم بدمج الصور مع بعضها، كي يصل إلى منتج جديد ومختلف، وتسنّى له فيما بعد أن تعلّم -بجهوده الذاتية- على بعض برامج التصميم والرسم والتغيير في الصور مثل “الفوتوشوب”، فظلّ يركب ويصمم، وينتج منتجات فنية على هذا الصعيد، ومنذ البداية يرصد أي شيء جديد يراه يحاول أن يرصده أو يتصيّده بالكاميرا، فكان آخر مشهد رصده هو مجموعة أطفال يتعلمون كيف يلعبون كرة القدم، وبات لديه -في الوقت الحاضر- نحو 5000 صورة، وقد حدّد بداية علاقته بالكاميرا عام 1413 وحتى الآن، وهو رفيق الكاميرا، ومن الكاميرا التي اشتراها بـ300 ريال تعددت لديه الكاميرات فلديه الآن كاميرا بـ14 ألف ريال؛ وهي الرفيقة الدائمة له في الوقت الحاضر.
من بيع الماء للمقعد الدراسي
ولكن، هل القصة ابتدأت من هنا، وهل حياة هذا الشاب جاءت مع الكاميرا؟ سؤال أثرته عليه فكان جوابه بأن الظروف ساعدته كي يتعلّم، لكنّها أيضًا -أي الظروف- هي التي حالت دون أن يكمل دراسته الجامعية، فيقول بأنه أنهى دراسته العامة متنقلًا بين الأحساء والقطيف، وتاروت، والرياض، فالسنوات الأولى للدراسة الابتدائية (الأول والثاني والثالث) قضاها في الأحساء، ثم انتقل إلى القطيف حتى أنهى المرحلة الابتدائية (الرابع والخامس والسادس)، ثم واصل دراسته بجد واجتهاد في تاروت، ثم انتقل إلى الرياض وأنهى الدراسة الثانوية.
ويتذكر أنه وخلال سنوات دراسته في الرياض كان يمارس العمل في أوقات الفراغ، فكان قد رأى جماعة يبيعون الماء في الشارع، فالتحق بهم، وصار يعمل معهم، ثم انفرد وحده يبيع الماء، إذ صادف -ويا لحسن المصادفة- أن أحد المسؤولين قد مرّ على مقربة من الشارع الذي كان يبيع فيه الماء فلفت نظره صورة هذا الشاب السعودي الذي يبيع الماء، فسأل عنه وأخبر أن هذا الشخص سعودي من ذوي الاحتياجات الخاصة، فأمر بمتابعة وضعه والتأكد من التحاقه بالدراسة، وعلى ضوء ذلك تم التكفّل بدراسته مجانًا في الرياض، واختيار مدرسة مناسبة له ولمثله، وبعد الانتهاء من المرحلة الثانوية، كان يرغب في الحصول على مقعد دراسي في الجامعة، ولم يكن ثمة مانع لذلك عدا أن ظروفه المالية -كما قال- لم تساعده لأن يكمل الدراسة الجامعية، فقرّر أن يدخل الحياة العملية بالشهادة الثانوية، وعاد إلى مسقط رأسه في جزيرة تاروت، والتحق بالعمل في رأس تنورة كأولى محطّات العمل لديه، فكان يعمل على الحاسب الآلي لدى إحدى الشركات، وكان -في بعض الأوقات- يتم تكليفه بمهام يؤديها من المنزل، واستمر على هذا الشأن إلى أن حلّ وباء الكورونا فتم تسريحه من العمل، مثله مثل عدد لا بأس به من العاملين في القطاع الخاص.
من الهواية إلى الحرفة
رغم كونه من هذه الفئة (ذات الاحتياجات الخاصة)، إلا أنه -ورغم كل الظروف المحيطة به- يؤكد أنه يشعر بالسعادة الغامرة إذا حضر أي فعالية اجتماعية، أو رياضية، فهو يقوم بالتصوير ولا يكل ولا يمل، بل يحرص على أن يكون عمله متقنًا، ونتاج عمله دقيقًا، ويؤكد أنه ومن خلال المشاركات في بعض المناسبات حظي بإعجاب بعض المؤسسات فكان يتم استدعاؤه للتصوير وكان يلبّي الدعوات، سواء كانت خيرية تطوّعية أو أن ينفّذ مهمّته بمقابل مادي، ومن هذه المؤسسات جمعية تاروت الخيرية للخدمات الاجتماعية، التي بات موظفًا لديها يقوم بمهمة التصوير، لذا فلا غرابة أن يكون قد مارس التصوير من جزيرة تاروت، إلى القطيف والدمام والخبر والأحساء والجبيل، فمن الهواية إلى الحرفة، وهو يعمل في جمعية تاروت الخيرية على وظيفة مصوّر.
محطّات
خلال اللقاء معه، أورد لنا بعض المواقف، التي تستحق أن تروى، منها أنه امتلك عددًا من السيّارات وكان يتعرّض خلالها لحوادث فأتلف أربع سيّارات، ولم يتعرّض لإصابة، وإنما التلف طال السيارات فقط.
ومن المحطات أيضًا، يقول بأن والده قام بتزويجه بعد أن أنهى دراسته والتحق بالعمل فله من الأولاد ولد واحد يدعى مهدى، وقد حضر -كما سبق القول- اللقاء، وكان يقوم بدور الترجمة بلغة الإشارة، فقد أكد الابن (مهدي) أن علاقته بوالده حميمة جدًا، فهو صديق والده ينتقل معه في شتى المواقع، وهو يفتخر بوالده ويراه قدوة حسنة له، ويعجبه المثابرة التي هو عليها، فهو لا يضيع وقته في أي شيء غير مفيد، وهو في المنزل يكون مع الكاميرا والحاسب الآلي، يحمّل الصور، ويقوم بدور التصميم والفرز وما إلى ذلك.
الابن مهدي يؤكد أن والده يتقن -إلى حد ما- اللغة الإنجليزية وكذلك اللغة العربية قراءة وكتابة، وهو حاضر في شتى المناسبات الرياضية والاجتماعية، ويحظى باحترام الجميع، ولم يجد والده متأففًا من كونه يعاني من إعاقة في السمع والنطق، بل يحظى بحب الكثير من الناس، الذين يسعدون بلقائه، ويلتزمون بأوامره إذا أراد التصوير، ويحدث أن تتأجل المباراة لدقائق لأنه الأبيض يريد تصوير أحد الفريقين.
وحضر اللقاء أحد أصدقائه ممن يعانون الإعاقة نفسها، ورغم أنه يؤكد أن كافة الناس أصدقاؤه، لكنّه مع هذا الشخص يلتقيان في الظروف الذاتية نفسها، هذا الصديق وهو عادل الضاحي والذي يعمل موظفًا بوزارة التجارة، أكد أنه يرافق الأبيض كي يتعلم منه التصوير.
يذكر أن الأبيض عانى في وقت ما من السمنة المفرطة، فدخل في برنامج “ريجيم” قاس، وتخلًص من جزء كبير من وزنه، وصار سريع الحركة رغم أن حالة السمنة لما تنته بالكامل، ويؤكد أنه قابل بما قسمه الله له، ويطمح في وظيفة ذات راتب مجز، يساعده على العيش الكريم، حيث إنه يقطن شقة بالإيجار.