ماذا يعني أن يتغذى فعليًا بالفن مذ نعومة أظفاره؟ وماذا لو كانت سني حياته في المرحلة الابتدائية والمتوسطة مسرحًا فنيًا يدويًا لتجارب الأعمال الخشبية بكل شغف بالتفاصيل؟ حتمًا ستكون تلك الأعوام مشروعًا لولادة فنان مغرم بفنه، يسكب فيه كلّ مشاعره وأحاسيسه بكلّ ما ينتجه من منحوتات وفرائد خشبية، مستلهمًا فنّه من الطبيعة والأصدقاء المؤثرين غالبًا.
عشق الفنان علي عبدالله المادح رائحة الخشب منذ طفولته، وسخرّها خامة مميزة يعكس من خلالها أعماله، وكانت أول نظرة وقعت عيناه عليها تصاميم علي كعيو، وعلي أبوعبد الله، فتأثر بهما، وفي ساحة الفن وعندما أصبح شابًا وجد نفسه فنانًا مع الفنانين، يستمد من كل شخصية إيجابية وإبداعية منهم إلهامًا، ومع الوقت جمعته العلاقات والتعاون الوثيق مع الفنانين والمصورين الفوتغرافيين والخطاطين والنحاتين، إضافة إلى العلاقات القوية التي تربطه بمصممي الجرافكيس، فهو ملتف بشخصيات فنية كلها ملهمة، وكلها مؤثرة وداعمة له.
صيغة بصرية
وعن هويته وعلاقته بالفن، يصف المادح نفسه بأنه صانعُ فكرة، ومصمم وهاوٍ للخط العربي، كما أنه يحب التصوير بالأجهزة الذكية، ويضيف: وُلِدتُ في بيئة فنية لشغف الفن والتصميم بكل ما للكلمة من معنى في بلدتي القطيف، وحصلت على دبلوم بعد تخرجي من المرحلة الثانوية، وقد دفعني الفن للعمل به جانبيًا بعد التقاعد، واستغلال هوايتي كمصمم لعمل منتجات وهدايا مرتبطة بالخط العربي وبأسلوب مختلف.
ويتابع: ساعدتني ظروفي للتفرغ للأعمال الفنية منذ صغري، وفي رحلتي مع الفن كنت دائمًا ابن الحظ واغتنام الفرص؛ فالظروف تعاونت معي دون الاضطرار لهدر الوقت، بل وأصبح شاغلي الأهمّ تقديم صيغة بصرية متفرّدة لي.
الحرف العربي
يهتم ابن القطيف اهتمامًا شغوفًا بالخط العربي يوازي اهتمامه بالأعمال الخشبية، وقد بدأت علاقته الجدية العميقة بالحرف العربي كهواية واستغلال ناجع للوقت مع صديقه المخلص والموجه الشيخ هيثم الجشي، فهو الداعم والمؤثر في مسيرته الفنية، فكانا يتعاونان معًا في كتابة اللوحات الحائطية والقماشية الهادفة والرسالية للمناسبات والاحتفالات.
وما بدأ بمجرد هواية للخط واستغلال هادف لعقارب الوقت، تحول بعد ذلك إلى شغف واهتمام ومزاولة، فقد أحب المادح قراءة واقتناء كتب الخط العربي، والكتالوجات واللوحات الخطية مع صديقه محسن آل دعبل “الخطاط رجائي”، وأصبح شغوفًا بزيارة الخطاطين والمعارض الفنية والمؤسسات التي تعنى بالخط العربي.
جماعة الخط العربي
وبدأ الشغف يزداد أكثر مع الحرف مع تأسيس جماعة الخط العربي بالقطيف، وكانت البدايات مع الخطاط حسن رضوان عابد، إذ حاول أن يتعلم على يديه الخط بقوانينه وقواعده الكلاسيكية، ولتمكينه من الاهتمام بالصورة الأكثر إبداعًا، ولأن المرجعيات الفنية للخط العربية آنذاك في السعودية فقيرة نوعًا ما “على حد تعبيره”، فكان المادح يجول ويسافر بحثًا عن المعارض الفنية التي تعنى بالخط العربي الأصيل، ومن خلال اطلاعه على أكثر من مدرسة فنية، تولدت لديه فكرة المزج بين فنين من الفنون، هما الخط العربي الأصيل، والخط الفني التشكيلي الرقمي الحديث، وكذلك إدخال التعديلات على المواد واستخدامها في التصميم، والفضل في ذلك يرجعه أيضًا للصديق عابد.
فيض الروح
لا يستطيع المادح تحديد بداية هويته كمصمم؛ أو نحات؛ أو خطاط، فهو يعرّف وجوده في هذه الرحلة الفنية كمصمم هاوٍ للحرف يدوية يمارس النحت والتصميم، وهذه المنحوتات جميعها هي بالنسبة له تعبيرات عمّا تفيض بهِ الروح ليس إلا، وكانت البداية مجرد اقتناء لبعض القطع الفنية الخشبية، حيثُ كان شغوفًا كما الغير بهذه المدرسة الفنية، وبرأيه فالذين يشتغلون على الحرف العربي ليس كقيمة تواصلية فقط، وإنما يفرغون الحرف من معناه لكي يقدموه كشكل جمالي يطرح أسئلة لها علاقة بالفن التشكيلي وليس بالخط العربي فقط.
رؤية إعلانية
آمن المادح بموهبته، ووثق بها بفضل تشجيع المحيطين به، لكن الدرب واقع لم يكن سهلًا ممهدًا، فقد أمضى الكثير من الوقت والجهد في إعداد محفظة أعماله للفن، ومنذ عام 2014م بدأت فكرة ظهور أعماله لترى النور، والبداية تمثلت عبر أفكار ورؤية إعلانية وفنية وتصاميم تعطى وتنفذ للأصدقاء، ولا تزال الهواية التي يمارسها، يمارسها في بيته، والفضل يعود أيضًا للأصدقاء الحرفيين.
مجسم حروفي
تعود الذاكرة بالمادح لأول مجسم حروفي في 1407هـ، ولرائحة الخشب تحديدًا بعمل فني بالخشب الطبيعي كعمل منفذ لمادة التربية الفنية في المرحلة المتوسطة، وبعدها توالت الأعمال المتواضعة الصغيرة، وأفضلها لديه طاولة مخصصة لجهاز الحساب الآلي صنعت بصورة كاملة من جذع شجرة الكافور وبأدوات بدائية، لكن الأعمال التي ينفذها الآن كثيرة جدًا، يخدمه في ذلك تقدم الأجهزة المتطورة والأدوات المستخدمة في حفر الخشب.
يعتبر المادح كل مشروع هو تحدٍ له، مهما تراكمت وتنوعت خبرات الفنان واجتهاداته، فالصعوبات لا مكان لها في أي مشروع، إذا بدأ بروح التحدي والاجتهاد، ومن المهم من وجهة نظره تركيز الفنان في مجال واحد، فهو في مجاله يصمم ويبتكر أفكار مقتبسة من البيئة المحلية لبعض القطع الفنية ويمزجها بالخط بالعربي، وهذه الأدوات تعتمد على الفكرة وتصميمها، وبعدها ترى النور، وعلينا كمتعاملين مع الفن أن نعي أنه ليس كل حرفي فنانًا، وليس كل فنان حرفيًا، فهناك ملكة الفكرة، وهناك ملكة العمل بالآلة، وهو ما يخلق الفرق بين الأعمال بين أعمال الفنانين في الساحة الفنية.
أينما ظهر بهر
ابتكر ابن القطيف الكثير من الأعمال، ونفذها سواء من الأخشاب الطبيعة المتوفرة من البيئة المحلية ودمجها مع معادن أخرى، أو من خامات مختلفة متنوعة لتطوير التصاميم، مع إمكانية توظيف الحرف والزخرفة التراثية المزججة ذاتيًا كقيمة جمالية حتى في مجال التصميم الداخلي والمعماري.
وقد بدأت عنده جرأة المزج بين العمل الفني والتصميم الداخلي، ودائمًا كان شاغله الأهم هو تقديم صيغة بصرية متفردة تحاكي الحالات الأكثر رهافة وإلحاحًا على المستوى الشخصي لتقديمه بصورة بصرية قابلة للاقتناء، فالمادح من المؤمنين بالانفتاح على التجارب الأخرى، والمزج لجميع الفنون التي لها بعد ثقافي، وتبقى الأعمال والهدايا الأكثر طلبًا هي الأعمال الفنية المحاطة بالحرف العربي، فالحرف العربي أينما ظهر بهر.
الجرأة والأسلوب التجريدي
يتميز المادح بكونه مصمم ومحب للأسلوب الفني التجريدي والجريء بمفهومه المعاصر الملاحظ في أعماله وتصاميمه، وهناك حضور مكثف للحروفيات وللهوية التراثية، حيث إن معرفة التراث واستلهامه تاريخيًا وسلوكيًا وحضارة يقوي من ذوق الفرد وفي حالات مختلفة، ومن هنا يجد أن أغلب الفنانين والحرفيين قد اتخذوا من رسم الزخرفة والحرف العربي سبيلًا لمقاربة هذه الحياة بكل مكوناتها وتعبيراتها لما ينطوي عليها من قيمة جمالية، حيث تتميز أعماله بالحرف العربي كأداة للتواصل في علاقته بتلك المبادئ المكونة للعمل التشكيلي وتخليص الشكل الطبيعي من تفاصيله الجزئيّة، والاكتفاء بالأشكال المُعبّرة عن الفكرة الجوهريّة للشيء المُراد رسمه.
قماش جاذب
بتأمّل محتوى ما يقدمه المادح نلاحظ أنّ هناك توجهًا نحو الكتابة على الأقمشة وتحويلها لتحفة فنية، وهذا يرجع لشغفه واهتمامه بتنوع الأعمال الفنية التي يمكن اقتناؤها للديكور والتصميم الداخلي، والخصوصية المحلية في تصميم الأثاث.
وقد بدأت لديه فكرة الطباعة على القماش بتصاميم حروفيات جاذبة، ودمجها بالفن التشكيلي للأثاث، وما يميز المنتجات القماشية أنها لوحة من حروف أصيلة وطباعة فاخرة، ويمكن استخدامها كمكمل للديكور بلوحات جدارية تزين المنازل والفلل والمكاتب وطاولات الطعام.
مزاوجة
استطاع المادح المزج بين الحروفيات والفن والأقمشة في مشروع واحد، زاوج فيه بين البصري التقليدي وبين العصري، وتحولت بعض لوحاته القماشية إلى مصدر إلهام لمن يشرع في إنشاء مشروعه التجاري أو الفلل الخاصة، وأصبحت كلوحات فنية معاصرة تحمل دائمًا بصمة لا تخطئها العين، وتحمل ملامح تأثر بمفردات وتكوينات وإيقاعات الخط العربي، وتلك محاولة لإشباع حالات فراغ فني وتكوين بصمة خاصة.
ليسعفه الوقت
يتحصن عن العالم بفنه، ولذا فلا شيء يؤرق ابن القطيف في فنه غير الوقت الذي لم يعد يسعه ويسعفه، فالوقت الحاضر لم يعد لدى الناس من الوقت ما يكفي للقيام بالكثير من الأنشطة، كما أن وسائل التواصل ومثلها العديد من الوسائل الأخرى والأنشطة الاجتماعية، تستحوذ على الوقت.
ثروة أدبية
يرى المادح بأن المنطقة ندتمتلك مخزونًا أدبيًا هائلًا يستحق أن يتحول إلى أعمال فنية حقيقية، تمس المتلقي وتخاطب مشاهده، والفنون يلهم بعضها بعضًا والمبدعون يمثلون مصادر إلهام لبعضهم.
فعلى سبيل المثال الشخصي فكلمات الصديق الشاعر هادي رسول، وكلمات الشاعر علي الشيخ، وقصائد الشاعر حبيب المعاتيق كثيرًا ما تلهمه، فيحولها إلى لوحات تشكيلية، وبوسترات توعوية مقتبسة من أدبياتهم، وله تجارب كثيرة تم نشرها عبر السوشيال ميديا.
الفوتغرافيون
إن أعمال الفوتغرافيين محمد الخراري، وعباس الخميس يمثلان للمادح عنصر قوة وتأثر، كما إنه متأثر جدًا بالفنان التشكيلي بشار الشواف الناصح والمرشد له، والفنان التشكيلي زمان جاسم، وكذلك الفنان التشكيلي القطري علي حسن، ومن رواد الحركة التعبيرية التجريدية الفنان الأمريكي بول جاكسون بولوك Paul Jackson Pollock، فهو أحد أكبر الفنانين العالميين الأكثر تأثيرًا في الأجيال اللاحقة من التشكيليين والفنان ميرو Joan Miró، والملاحظ في أعماله الخطية دمج هذه المدارس إلى أسلوب متفرد يخصه.
الاختفاء أناقة
صمم المادح إعلانات وشعارات منذ ما يقارب 25 سنة، وله بصمة خاصة لتجميع الأفكار التي ترتبط بكل مشروع على حدة، كما يوجد للمادح أعمال تم اقتناؤها خارج المملكة في الكويت وعمان والبحرين وأمريكا، كما كان له مشاركات في المحافل والمهرجانات، ولكنها قليلة جدًا، وربما هو يعمل بما قاله جان كوكتو (في الاختفاء أناقة) -حسب قوله-.
طير وفكرة
يحوم في ذهن المادح كل صباح ثمة طير متحول يكون على هيئة عصفور يتنقل من غصن إلى غصن، وخلال العمل على التصميم يغدو طيرًا جارحًا يحمل له شتى أنواع الطرائد في النهاية، “فالفكرة” هي طريدة لا تقتنصها بسهولة، وقد أصبح مع ممارسة الفن يقدر العملية الإبداعية كونها نظامًا مفتوحًا، يصوغ العالم من خلاله بكل ضغوطه الاجتماعية والثقافية والبيئية في أشكال وقوالب وأفكار، ومن خلال تلك الضغوط ينتج العمل.
قراءة الحرف
وجه المادح دعوة إلى إعادة قراءة الفن والحرف العربي والتمسك به، فكلنا نحتاج للفن بجميع أنواعه، فأيًا كان الشكل الذي يتخذه الفن في ثقافة معينة، فإنه يوفر تغذية إنسانية أساسية ويبعث فيها مشاعر عدة، ومعاني بدءًا من البهجة والسمو ووصولًا إلى طرق جديدة لفهم عالمنا فإذا عرفنا من نحن، تمكنا من أن نتبوأ المكانة التي تليق بنا في المساهمة الحضارية.
واقع المملكة الثقافي
وعن واقع المملكة الثقافي واحتضانها للفن، ذكر المادح: “إن الواقع الثّقافي الذي تزخر به مملكتنا يمثّل برأيي حالة فارقة وقادرة على استقطاب أهم الطاقات الإبداعية والفنية على الصعيدين العربي والعالمي.
وأكمل: على المستوى الشخصي أنا مدين لمن احتضني في بلورة مشروعي الفني فهنا وجدت الدعم الكبير والوقت الكافي للاشتغال على التطوير وتنمية مشروعي، وعلى مستوى المجتمع فمملكتنا لديها استشراف للمستقبل، ومهتمة جدًا بالفنون البصرية والتراث؛ لذا دعونا نركز على استخراج شريحة متخصصة في هذا المجال، وأن نركز على أوائل المتخصصين فهؤلاء خبرة وقدوة في آن واحد.
من أعماله