بائع!

أكثر وظيفة قد لا يرتاح لها الكثير وتتوفر كثيرًا هي ما ترتبط بالبيع والشراء ومحاسبة الزبائن لأن بها مخالطة يومية بأصناف شتى من الشخصيات والنفسيات التي قد تُخرج الشخص من طور هدوئه، لأن بطبيعة الحال الشاري يريد السعر الزهيد والبائع يريد الربح الوفير وبيع بضاعته وفيما بينهما مكاسرة لا تنتهي.

البائع قد يبيع صدقه وأمانته بإعلان كاذب وصورة تخالف الواقع يروّج بها لبضاعته ويلمعها فيه فقط ليجذب زبونه إليه، والذي قد ينحرج بالعودة دون شراء فيشتري على مضض ويقبل أن يكون اللقمة السائغة التي ترضى بخديعتها.

قد يلجأ البعض لوضع كلمة “مجانًا” ضمن عروضه فهو لا يبيع بضاعته مجانًا لأن المشتري هو من يقدم نفسه لتلك البضاعة مجانًا حتى لو كان لا يستخدمها فقط مجانًا تُغري الفقير والغني ولا تجعلهما ينظران للقيمة الحقيقية للبضاعة.

لهذا عندما يسأل البعض لماذا وسائل التواصل مجانًا ليأتي الجواب: عندما لا تدفع ثمن البضاعة فاعلم أنك أنت البضاعة.

المسألة لم تعد مسألة شراء وبيع للماديات فقط، فالأمر تعدى ليصل لبيع وشراء المعنويات والعقائد والروحانيات.

فقط ألقِ نظرة على وضع الأولاد والفتيات وحتى الكبار الآن حتى لو كان الوضع إجازة بعد تذمر من الدراسة بأيامك القدسية، ما الذي يشغلهم عنك الآن سوى هواتف متنقلة تنقلهم من برنامج إلى برنامج وألعاب إلكترونية يُدس لهم فيها السموم غير المباشرة لكنها تدخل عقولهم دون إدراك منهم.

فهم يبيعون بها أوقاتهم فيك ويشترون ثقافة لا تتلاءم مع سنهم ودينهم وعقيدتهم.

في خدع تأثير الإعلان الذي يظهر أمام عينك كل حين وتتخاطاه أنه حتى لو عملت على تخطيه فصورته تبقى بعقلك الباطن وتحفزك على شرائه وتجريبه لو وجدته يومًا بقبالتك لأنه صار شيئًا اعتاد النظر عليه وصار مألوفًا.

كذلك بالمناظر التي نراها خلف شاشة التلفاز أو الهاتف وغيرها إذا اعتدنا على نظر المشاهد المخلة وسماع بعض المقطوعات الغنائية والكلمات البذيئة حتى باتت بالمسلسلات التي تكون مخصصة للعائلة وشيئًا فشيئًا يدخل التفسخ لها بحيث لا تتناسب مع مجتمعنا وديننا فإن كثرة طرقها للسمع والبصر قد يجعلها شيئًا معتادًا ولا بأس به، خاصة إذا تشارك الكثير رؤيته وسماعه، فالبعض يجد نفسه وكأنه من المحرومين إذا كان جميع أصدقائه أو قرابته يسمعون وينظرون وهو لا يفعل ذلك.

هناك فرق بالطبع بين من يستسهل بيع شيء من دينه وقيمه وبين من يقاوم ويصارع ليحافظ عليه.

ألم تر أنه في أعياد الكريسمس والسنة الجديدة والفالنتين كلها أعياد ليست لدينا وقد يكون بعضها أعيادًا مختصة بالمسيح فهل نحن مسيحيون لنحتفل بها مثلًا؟

نعم جميل هو التعايش مع الأديان الأخرى لكن ليس على حساب الدين ينسلخ الشخص من دينه ويلبس رداء دين غيره.

المصيبة حين يشارك البعض بأعياد غيرهم من الأديان والبلدان وينسى مناسبات دينه هو فتراه أول الحاضرين والمستعدين لميلاد المسيح (ع) والكريسمس وشراء شجرة الكريسمس ولكنه أول المتغيبين عن التهيئة وحتى الحضور بميلاد نبيه محمد (ص)!

الانتماء والهوية الدينية باتت تُباع ببخس دراهم ليُشترى بدلًا منها انتماء مختلطًا لا يُعرف هويته وحدوده.

أتعلم ما يُشجي الفؤاد أن هناك من هم ليسوا بمسلمين وحين يأتون لبلاد مسلمة يحترمون وجودهم كضيوف فيلتزمون باللبس المحتشم أقلا وقد ترتدي نساؤهم العباءة والحجاب التي لا يكون فيها شيء ملفت.

لكن من هم بالاسم مسلمون لدينا هم أول من يخلعها حين يذهب لوطنهم لا بل حتى وهو داخل وطنه أيضًا، وفي المناسبات والمهرجانات حدّث ولا حرج ففيها تحل المحظورات.

كل صار يمتهن مهنة البائع دون أن يدري ومجال البيع الأول هو الدين وكما قال الحسين (ع): «الناس عبيد الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا مُحصوا بالبلاء قل الديانون».

وإن كنا نبحث عن قدوة لمن يشتري رضا الله ودينه بنفسه فصاحب هذه الأيام العلوية هو من يعلمنا ذلك وفيه نزل (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ).

علي (ع) الذي باع نفسه وفدى بها خاتم الأنبياء محمد (ص) والذي ورث هذا الفداء من أبيه أبو طالب هو نفسه أورثه كذلك لولده ليفدي العباس (ع) أخيه الحسين خامس أصحاب الكساء (ع).

وبين علي والعباس هناك نقاط التقاء تجمعهما بالبيع والشراء والتجارة التي لا تبور، كلاهما كان الظهر الحامي والمدد المعين وصاحبيّ الراية في بيعهما ليشتريا عدم انتكاس الإسلام وعدم التنازل عن ارتفاع رايته.

كلاهما تلقيا السهام والطعنات من كل حدب وصوب و«طعن اللسان أمضى من طعن السنان»، وكلاهما باع دم هامته لتبقى هامة الإسلام عالية حتى لو كان ارتفاعها على رمح طويل أو تكون بصورة سب على المنابر والمآذن.

كلاهما تعرض للغدر من الخلف حتى يسقطا ولا سقوط يليق بهما إلا سقوط بهيئة السجود ليُزفا بالدماء لأحضان الشهادة التي تضمد جراحهما ونزف دمائهما.

كلاهما حمل وديعة بيده وتحت حمايته فكانت وديعة علي هي فاطمة ووديعة العباس هي زينب ولك كل البحث عما جرى بهاتين الوديعتين والوصايا بهما!

قلت لك سابقًا بيوم الكفيل إني سأعود للعباس وهذا يومه فيك الذي اشترى كفالة زينب بوصية أبيه علي (ع) قبل موته وباع في كفالتها بالعاشر من محرم زنوده وعينه وكل جراح جسمه لتكون خاتمة البيع ضربة فضخت الرأس بفعل عمود من حديد أعادت جرح علي للوجود من جديد.

وإذا كان جرح علي (ع) غزيرًا وسرى السم فيه وكانت أيتام الكوفة تأتي بأقداح اللبن لتساعد في علاجه، فجرح العباس لم يلق من يشده ويعالجه له بل لم يجد سوى صيحات الأيتام التي لا تزال تريد ملئه لقرباتها الفارغة من الماء وهو بعد لم يشرب قطرة ماء واحدة وفاء بوعده لهم.

تمرة إفطاري فيك اليوم هي من كف الساقي التي لا تزال لليوم سليمة ويد الأمير تضعها بيد أم المصائب زينب (ع)، وطمعي اليوم منه بالسقاية أكثر لعليّ أسقى من ماء وفائه ونصرته لنشتري نصر إمام غائب لاتزال عينه باكية لوديعته التي ضاعت من أول ما نشب ذاك السهم المحدد بعين عباسها.



error: المحتوي محمي