هِجرة رمضانية

حين يقول أحدهم اسمك فالذهن يتعلق بنطاق الزمان عبر ثلاثين يومًا منك، ومن رحمة ربنا بنا أنه لم يُحددك بمكان واحد فكل من على البسيطة يحضرون أيامك ولياليك بالشرق أو بالغرب، بالبحار أو بالغابات، عبر كثبان رمال الصحاري أو عبر جليد الثلوج، فأنت من يعطي القدسية للدقائق والهيبة للساعات لتكون الأماكن بك زاهية.

لكن هيبة النور التي بك باتت المصابيح والأنوار تخفتها حين تُعلق لأجلك لتنير سوقًا أو مكان لهو ولعب أو مكانًا يخاوي به أصحابه الشيطان بتبذيرهم فيك، وجميعها ليس لها علاقة برمضانيتك حتى يسلبون اسمك ورسمك ويُقال عنها ليالٍ رمضانية!

لهذا أنا فيك أحتاج هجرة المكان، أحتاج عيش الغربة بهجر الوطن وحتى لو كانت الغربة كربة لكن ربما التغرب يُعيد لنا طعم جوك الذي نريد أن نصل له حين نقصد بعض الأماكن التي تكون الروحانية بها تتلاءم مع قداسة زمانك وتكون الليالي بحق رمضانية.

نعم يستطيع كل واحد منّا أن تكون له زاوية يختلي بها وتكون مكانه المقدس التي تمسها هالة الروحانية التي تستأنس بها روحه، وهجرته لن تكون حلًا إلا إذا خاف على دينه وتغيره وإنجراره لمن حوله.

وحتى مع الهجرة نحن لا نضمن المجتمع الذي سنستوطن به وما مدى التأثير الذي سيؤثر علينا بالسلب أم بالإيجاب؟!

قد يعتزل البعض أقرانه وأخوانه من الناس بُغية الاختلاء بك لكن أنت لا ترضى ألا يكون هناك موازنة فالدين ليس صومعة عبادة دون المعاملة الحسنة مع الآخرين.

لو كان الله يريد منا عبادة فقط لما أنزل لنا مثال الخلق الحسن ليقول لنا (ص): “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وهل يكون هناك خُلق بين الشخص ونفسه ودون أطراف أخرى من الناس؟

نحن نُخطئ حين نحصر الدين بسجادة وقرآن ودعاء فليس بالدين رهبانية، ونُخطئ أكثر حين نظن أن من لا يتعبد ولا يقرأ دعاء أو قرآن هو بعيد عن الدين وربما خلقه يرفعه درجات أعلى مما نتصور، وربما نستنكر عليه وجوده لو أتى يومًا فيك لمسجد أو مأتم وكأنه ارتكب جرمًا بمحاولة العودة والبحث عن روحه ودوائها، حين ينال بعض التعليقات الساخرة أو المتنمرة التي توحي له أن بيوت الله ومآتم الحسين ليست لله ولا للحسين بل لأشخاص لا يُحسنون ضيافة ضيوف الله وضيوف حُسينه.

والأدهى إن كان الخُلق السيئ يؤدي لطرد مؤمن مداوم على بيوت الله أو مآتم الحسين، لا أزال لا أنسى منظر تلك المرأة التي خرجت من المسجد بإحرام صلاتها وهي كانت من المواظبات على الصلاة فيه ولا أعلم ماذا قيل لها ليضايقها فلم يُمهلها غضبها من خلع إحرامها بل ارتدت عباءتها عليه، لاأزال ألوم نفسي لليوم لماذا سمحت لعيني أن تراها تغادر ولم أستطع يومها إرجاعها وتطييب خاطرها وهي التي لم تكن ممن يأتي ليتبادل أحاديث أو يدخل في هدر الكلام بل كانت تأتي لتصلي وتتعبد.

ماذا كان سيكون جوابنا إن حصلت إهانة لأحدهم أمامنا ولم ندافع عنه ببنت شفّة، وجعلناه يخرج محزونًا ومطرودًا من مكان يُمنع أن يتم طرد المسلمين والمؤمنين منه.

رسول الله (ص) حين هاجر من مكة لموت ناصريه بالدعوة عمه أبو طالب (ع) وزوجته خديجة (ع) غادر منها رغم أن فيها بيت الله وأمانه لكن أمان الله قد ينتهك بمن لا يخاف الله بعد رحيل ناصريّ رسول الله (ص)، لهذا هاجر للمدينة وأول عمل قام به هو بناء مسجد قباء ليكون رمز الدين وأمانه وهو الذي أُسس على التقوى.

وثاني عمل قام به نبينا هو المآخاة بين المهاجرين والأنصار على الحق والمواساة وأن يتوارثوا بعد الممات دون ذوي الأرحام، فكانت للنبي نظرة ثاقبة بمآخاته للأرواح والأنفس فكانت تتلاءم بطبيعتها ولا نعلم إن كان هو من اختار لنا بعالم الذر من نعدهم لنا إخوانًا في الله حتى لو لم نشترك معهم بالأم والأب.

رسول الله (ص) بيده آخى بين أبو بكر وعمر، وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ، وبين أبي ذر الغفاري والمنذر بن عمر، وبين حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، وبين سلمان وأبي الدرداء، كانوا قرابة تسعين أو مائة شخص من المهاجرين والأنصار لو كنا بينهم وانتهت المؤاخاة وانتهى العدد ألن نبكي لتوقف الرزق بالمؤاخاة عندنا؟

يُقال حين انتهى الرسول من المؤاخاة جاء له علي ابن أبي طالب (ع) دامع العين وقال يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال له رسول الله (ص) أنت أخي في الدنيا والآخرة.

دمعة علي (ع) كانت تريد الأخ الذي يستطيع معها المشاركة بالسراء والضراء وليكون الدعم والسند والظهر الذي يُحتمى به لتكتمل لوحة الأخوّة الصادقة التي تصل لمرحلة تجسيد النفس الواحدة التي تُفدى بالروح دون أي تردد.

الأخوّة التي ضُربت كمثال بكتاب الأخوة الخالدة وورثت مثالًا آخر خالدًا فكان تجسيده في العباس والحسين حين غدا العباس يجسد أخوّة أبيه مع النبي (ص) بحمايته والذود عنه.

تمرة يومك الثاني عشر والذي تآخى به المهاجرون والأنصار فيك هي من يد متآخييّن بالدنيا والآخرة هي من يدا أبواي رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) والتي أرجو أن تكون يداهما الكريمة التي أعطتني إياها ترتفع لتدعو لي بأخوّة رمضانية فيك تُعينني على طريق دنياي وترافقني في برزخ آخرتي لنهاجر وننتصر معًا.



error: المحتوي محمي