حين ندخل في أيامك نحن ندخل بأداء فريضة الصيام بما تحوي من نية وإمساك عن المفطرات لزمن معين وما يتضمنه من إمساك روحي عن بعض الأمور التي لا يستقيم الصيام فيها كترك بعض الفرائض مثل الصلاة أو عمل بعض الكبائر كالكذب على رسول الله (ص) وغيرها.
حين نصوم أيامك وبالغالب بأول الأيام يأتينا السؤال كيفك مع الصيام؟ ومفاده هل شعرت بالجوع أو العطش أثناء الصوم؟
قد لا يشعر الكثير بالجوع أو العطش أو حتى الانزعاج من الصيام إلا إذا كان به مس من الإدمان كإدمان التدخين أو شرب المنبهات لا بل حتى مدمني الحلويات والأطعمة السكرية.
هؤلاء من يستحقون توجيه السؤال لهم، لأن الصيام لديهم يحولهم لشخص آخر سريع الاشتعال ينتظرون أول تكبيرة بالأذان ليستطيعوا الأفطار بسيجارة أو كوب قهوة حتى قبل أن يفطروا بشربة ماء أو فردة تمر.
عجيب أنت يا شهر رمضان والذي تأتي لتجعلنا نعمل رياضة لأنفسنا لتروضها وتعمل على تهدئة كل إدمان يضرنا ويضر صحتنا لتستطيع أجسادنا الراحة ويكون هناك عمل للتنظيف الداخلي لينعكس على الروح بالخارج.
لكن للأسف نحن نزداد شراهة لكل شيء مُنعنا عنه بوقت الصيام لنأكله بمقدار الضعف وكأن أجسادنا قُدر لها العقاب بواسطتنا.
يحضرني هنا ابنا أخي اللذان رغبتهما بالسلطة حين دخلت لهما بمدخل الخيال وأخبرتهما أن المعدة تستأنس جدًا حين نأكل ألوانًا عديدة بالسلطة لأنها ستقول ما هذه الحديقة الجميلة التي بعثها لها صاحبها وستقدم له الشكر وعبارات الحب لأنه أكلها وقدمها لها.
الخيال ليس للأطفال فقط نحن الكبار نحتاجه بقوة أيضًا ألنا أن نتخيل ما تقول معدتنا حين نفرغ عليها أكثر من خمسة أصناف بوقت واحد دون أي تمهيد لإفطارها؟ خاصة إذا كانت الاستفتاحات مبالغة بالزيت أو السكر أو الملح، لله صبرها واقعًا.
حين ندخل بمجال الطبخ ونرى مقادير بعض الأكلات لا نصدق كيف رضينا على أجسادنا أو أجساد عائلتنا أن نقدم لها هذا المقدار الزائد من الدهون أو السكريات وهذا ما شعرت به بالفعل حين أعددت يومًا طبقًا من الحلوى التي أوجعني قلبي وأنا أضع كمية هائلة من السكر وكأني أقدم سمًا خامًا بكل لقمة فيها، لهذا كانت المحاولة الأولى والأخيرة.
نحن نحتاج لشعور الجوع ولكن ليس ذاك الشعور الذي يجعلنا نفطر فيه على الآخرين، وليس ذاك الجوع الذي تنهار فيه الروح أمام مغريات الزمن وتقرر عدم أداء هذه الفريضة العظيمة التي يقول الله جل جلاله عنها: “كل عمل ابن آدم هو له غير الصيام هو لي وأنا أجزي به”.
اليوم لاحت لناظري رواية خطيرة يرويها كشاف الحقائق الإمام الصادق (ع) يقول فيها: “مَنْ أَفْطَرَ يَوْماً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ [أي من دون عذر] خَرَجَ رُوحُ الإيمَانِ مِنْهُ”.
حري بنا أن نقف وقفة صمت عميقة تحت هذه الرواية، وهناك من وصل للتجاهر بإفطاره بنهار شهر رمضان دون عذر لينبئ عن ضعف شديد بإيمانه لا يتحمل معه بضع ساعات دون مأكل أو مشرب!.
هو ليس المقصد من الصوم معاقبتنا للشعور بالجوع والعطش فقط لنستشعر ونواسي كل فقير ومسكين يقرصه الجوع والعطش لأيام أطول من أيام شهر رمضان.
بل هناك فلسفة من الصوم قد لا ندركها ونأخذ بظاهر الصوم دون عميق معناه.
نحن نحتاج أن نستشعر الجوع والعطش الذي يُنسينا لقاء المحبوب بصلاة والحديث معه بمناجاة كل مأكولات الدنيا المغرية والتي لا تظهر إلا بهذا الشهر.
أتعلم من يعلمنا الجوع الحقيقي هي طفلة صغيرة لم تتجاوز الخامسة من عمرها تقول لعمتها ببراءتها: عمة هل توجد بالشام طفلة أشد جوعًا مني؟
ورغم جوعها الشديد حين أتوا لها بالطبق المشؤم وظنت ببراءتها أن هناك من رحِم جوعها وجاء بالطعام إليها لترفض تقبّله لأن جوعها عاف طعم الطعام فهي لم تكترث له، لكن همها هو إطفاء جوع الروح ولقاء محبوبها الذي مضت أيام وليالٍ طوال بمرارتها ولم تر فيه شخص والدها الحنون عليها.
رقية جائعة للمسة يد الحسين وتتضور جوعًا لحضنه الدافئ، هي جائعة لمبسمه وحديثه معها فطعام الدنيا لا يطفئ حرقة جوعها له لهذا كان الموت جوعًا هو أقرب السبل للقائه.
فيا شهر ربي باليوم الثاني منك، مولاتي رقية (ع) هي من ساقت لي تمرة الإفطار فيك برقة إحساسها وكان الجوع الممزوج بلهفة الروح لمن به يكون غذاؤها هو الدرس العظيم من فلسفة الجوع لتلقي أيدي الرحمة الإلهية، فليس مهمًا جوع الجسد، المهم أن نتعلم أن تجوع أرواحنا لله وآل الله لنسعى للشبع ولا شبع يحصل أبدًا إلا بلقاء يسبقه احتساء كأس المنية.