أمي من فريق الأطرش (3)

يا أيها الفرح الطامي خذني مرجوحة عشق لفيافي فريق الأطرش دلني على دروب أمي وجدتي، وحبابتي، أطبق قدمي على آثار وقع خطاهن، أَسمعني رنين “حجول” الكواحل، ارسمني براءة محيا، لا تحمم بعين “امعيط وخشكار”، وأعدني ذكرى حلم عند ذاك النبع الذي غسلت فيه أمي يدي وأقدامي من الحناء، وقالت: “حليو.. صبغ حناك يا ولدي” فرحًا بالعيد مذهولًا باللون، أقلب كفي مرات، وأتأمل باطن قدمي جلوسًا، كأني أول مرة أتحسس أطراف جسدي، أقبل يوم العودة، وعند طابور الصباح زفوني طلاب مدرسة عمر بن عبد العزيز الابتدائية برحيمة، وعيروني “شوف البنت متحنية “، عند الفسحة أتكوم بثيابي كي أغطي أطراف قدمي ويدي، أسمعني الأستاذ صلاح نصيبًا من تعليق، وعلى وقع رطانة لهجات فلسطينية، وبدوية، وتهامية ودعت رحيمة بعد سنتين دراسيتين، ظل أبي في دكانه من دوني، سجلني عمي عبد الرسول في رحاب مدرسة ” تاروت” الابتدائية المعروفة بـ “الغالي” لكن دون شهادة أو ملف يثبت بأني درست مسبقًا، ملف جديد لطالب مستجد، بكيت، أمي بفيض حنانها احتوتني، نبضها يسري في عروقي حين يقبض كفها كفي، وتأخذني ارتحالًا إلى ربوع فريق الأطرش، هناك ينتظرني الحنان الأكبر، أمي العودة، هكذا نناديها، حينما يحل المساء، وتنحدر الشمس عند المغيب تشعل جدتي النار في الحطب لتجهيز وجبة العشاء، أرز يطبخ في جوف قدر قديم، يداها تقلب السمك على “المشواية”، أمي الصغيرة تهم بالطلوع قبل حلول أذان المغرب، لكن رائحة الطبخ تسيل لعابي،

جدال بين أمي وأمي وعطف الجدة على الحفيد كبير “يا بتي هذا هو الرز يتنشف ولودام استوى خلي عبد يأكل له لقمة عن إفاده ” وضعت الأرز بعد أن تحسست نضجه “چيلة ملاس في المشكاب ” امتلأ عن آخره، تحمله أمي عني، ونحن نسير جنوبًا نحو الديرة، منظري مضحك كالملهوف دون أدنى صبر، يدي ترمي الأكل جزء في فمي، والباقي يتناثر في الطريق، أمي تسرعني مشيًا قبل ازدياد حلكة الظلام وسط عتمة دروب النخيل، أفرغت الصحن عن آخره فأمسكت بالهيكل العظمي لسمكة الكركفان، أتأمل الشكل العجيب، والرأس المتيبس من شدة الشواء، وأقول في خاطري كانت سمكة تحيا في البحر حرة طليقة جاء الصياد وخطفها، حرمها من الحياة، وفمي استقبلها بطشًا بلحمها، أبلغت أمي بمشاعري، وترد على كلامي برؤية أكبر من فهمي، “وحللنا لكم صيد البر والبحر ” وأردفت بكلام أخافني “إحنا إذا متنا وحطونا في القبر، الدود بياكلنا أكال” ، تصور سريالي فاق إدراكي، ألحس يدي من بقايا الطعام، وأشعر بشيء من الخوف، وتأنيب الضمير لكن بعد ماذا؟ بعد أن افترست لحم السمكة وتجشأت ” هيكل القيته في “المسكه ” غير عابئ بأي شيء، عند حدود مدخل لنجيمة رفع الأذان، أمي ترسل دائمًا تنهدات في مثل هذا الوقت من كل يوم وتقول: ” يا دفاع النوايب يا كشاف الشدايد، إلهي ادفع البلاء والنوائب عني وعن ولدي وزوجي وعن أمي وإخوتي وخواتي وجيراني وجميع المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، كل بلاء وكل نايبة من بلاوي الزمان ” ، دعاء تكرره أمي مع كل فريضة، وزادت عليه بعد أن رزقت بأولاد، وبنات، وأحفاد، حرز قلبي بطمأنينة نفس.

صوت أمي والأمهات مساحة حنية لا حدود لها، ونبراتهن عند خطب ما تخلب الحواس، وأشد حزنًا أنينها عند العزايا موجع ومبكي.

تتلون الأحاسيس، ورجفة سرت في البدن حين سمعت معلمتي الأولى أم شاكر السني وهي تتلو على مسامعي “وإذا الوحوش حشرت ” تخيلت بأن القيامة ستقوم وقت الغروب، وكأني أرى قطيعًا من الحيوانات الشرسة منطلقة في صراخ، والبشر عرايا خلفهم في عويل، تسكن روعي شمس الصباح المتساقطة على سطوح بيوت الديرة، الإجازة فسحة من الوقت لأكل “البيوتة” -عيش ولبن- تحت ظلال بيت جدتي، يتمطق لساني بطعم “اللبنة الرايبة”، ألهج براءة بأن كل أكلة من يد الأمهات، ولو كانت بسيطة فهي مشبعة، والشوق لرؤياهن عطش دائم.

يمتزج تصوري للآيات مع أصوات لوليدات، الجالسات على كرسي خشبي أو “قاعودة” مصنوعة من خوص، تلاوات متداخلة، أقف متحيرًا عند آية “كلا إذا زرتم المقابر” وآية أخرى ” خشعًا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر ” تسأل من عليها دور التلاوة ما هي الأجداث يا معلمة؟ ترد معلمتي الثانية (أم علوي الدعلوج): يا بنتي هي القبور، وتوضح لها معنى الآية؛ فيسافر بي الخيال خارج حدود المكان والزمان، وأرى رقود البشر منذ آلاف السنين، وكيف نهضوا منذ فجر الخليقة، ويقومون مرة واحدة، وينتشرون كالجراد ليوم الحساب؟! صور يشكلها خيالي، حسب ما يترائى لي من آيات.

صغيرًا كنت أخشى توجيه أسئلة تتعلق بالوجود، وعن ماهية الروح، وكيف تغادر الجسد، كلما رأيت جنازة تمر بسوق تاروت تنتابني قشعريرة هذا رجل رأيته بالأمس، واليوم لا حراك جثة هامدة، سيدفن بعد قليل، وتلك المرأة، والجارة كانت تحيا بيننا، وكل شيء فيها مات، أين ستذهب أرواح من ارتحلوا وكيف تخلق أرواح جديدة، ومتى تنشأ روح الأجنة في بطون الأمهات، وما الفرق بين روح نملة وإنسان وجان، انشغالات فكرية أكبر من عمري سرعان ما أنساها؛ لأني ألقمت بحجر النهر ذات يوم.

أتنفس التوق لفريق الأطرش وأدع عفويتي سابحة في مظاهر البهجة، أبصاري متفتقة مثل تفتق زهرة الرمان، متأملًا تسلسل نضج الخلال، والبسر، والرطب، متربعًا تحت ظلال عريش من خوص تبيانًا لأنواع الرطب، وأسمائه من خلال شرح أمي وفراسة جدتي، كنت أدهش منهما حين تشيران إلى أية نخلة قبل ظهور البلح، هذه، بچيرة، غراية، ماجية، خنيزية، خضيرية، خصبة، خصبة الدشة، حلاو، عوينات، حجوب، خواجية، إخلاصة … ، تتملكني الحيرة من قدرتهما على ذلك، تستدلان بخبرتهما من نوعية السعف والجذع، تظن العين العابرة البعيدة عن الزرع بأن شكل النخل واحد، كلا وألف كلا، عيون أمهاتي تربت وسط الزرع، وتنفسن هواء الطلع، فلديهما خزين رؤية، والإنسان ابن بيئته، وسبحان الواحد الأحد الذي خلق فسوى، وأعطانا هذا التنوع في كل شيء.

تطرب أذني برنين صوتي أمي : ” يا نخلة بالحوش ما أحلى رطبها، إذا جاها سموم الكيض يبس عسقها “، بالأمس انتظار موسم الرطب شهور مسرات للأولين، ماذا بقي منه الآن، أيها الطامي عد بي لمرابع زمن الطيبين.



error: المحتوي محمي