عمو أحمد

في شاطئ البحر الأزرق بأمواجه الساحرة، والسفينة في امتداه كلوحة جمالية، تغدقه روعة، يا لهذا السحر الأخاذ.

إن المتأمل لهذا الإعجاز العظيم لا يملك إلا أن يشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة، والجمال.

أحمد يملك قطار الأطفال الصغير الذي يقتات منه، مصدر رزقه الوحيد الذي لجأ إليه بسبب ظروف أهله الصعبة؛ فهو لم يكمل تعليمه، للاعتناء بأمه وأخواته، يا ترى لماذا اختار هذا القطار كمهنة له؟؛ لأنه يحب الأطفال، يهفو إلى سعادتهم، يبحر في ضحكاتهم، ليشعر بالسعادة عندما يكون معهم…

أحمد رجل طيب، صبور، ومكافح، الأطفال يحبونه كثيرًا؛ لأنهم يشعرون بقلبه، وروحه التي ترفرف على البراءة في أعينهم، إنه ينطلق معهم يوميًا في رحلة جميلة ساحرة في القطار، يستمتعون بأجواء البحر الندية، يتناغمون مع أحلامهم الطفولية على نغم الأناشيد، ويحلق في خيالاته، يتمم في نفسه بأحلامه وطموحاته، وماذا سيصبح عليه بعد سنين؟
يقطع صوت أحلامه نقره على الجرس؛ لأن في الشاطئ الكثير من الناس، تمارس هواية المشي، وأطفال يلعبون بالكرة، وآخرون غايتهم الأرجوحة…

هذا ديدنه..، في كل يوم يقوم أحمد بهذه الرحلة من العصر إلى أن يسدل الليل ستاره، وفي أيام الإجازة الأسبوعية، يكثر الطلب على قطار الأطفال من قبل الأطفال، حيث تتجه الأسر إلى الترفيه، بأخذهم إلى هذه الأماكن الترفيهية، وتأتي فرحة أحمد التي ينتظرها، ليطير مع أحلامهم.. .

في يوم من الأيام رجع أحمد إلى شقته بعد يوم طويل، ومتعب، وأثناء دخوله إلى المبنى، فوجئ بحريق نشب في شقته، أسرع لها، وبعد فتح الباب رأى حجرة النوم تلته، والدخان يمتلئ في أحشائها، توجه مسرعًا ليقوم بإطفاء الحريق إلا أنه وجد زوجته وابنه قد فارقا الحياة.

لم يمهله القدر لوداعهما، إنها لحظة حزينة، ومؤلمة وقعت في حياته ستغيره، ستكون الفاصل في حياته، ما أقسى أن تفقد الأشياء الجميلة في حياتك في آن واحد، لقد فقد شريكة حياته وابنه قرة عينه، لقد فق قلبه كله.

اسودت الدنيا في عينيه، اعتزل الناس، وعمله وجيرانه، لا يذهب للشاطئ، لا يلهو مع الأطفال في القطار الذي يحمل ذكرياته الجميلة، وينابيع أحلامه..، لا شيء يجبر مصابه، فكيف ينسى شريكته الحنونة عليه، الصابرة على ظروفه، كيف ينسى ابنه حسن ذا الخامسة ربيعًا الذي وعده بأن يسجله في الروضة، آه..، كيف؟
طالت الأيام، وأعقبتها الشهور، والكل يسأل عن أحمد صاحب قطار الأطفال، فلا يزال قطار الأطفال مركونًا عند شقته منذ الحادثة، لا شيء يبرد قلبه سوى الصبر الجميل…

وبعد انقطاعه عن الشاطئ، خطرت فكرة في خاطر أحد الأشخاص الذين يسألون عنه دومًا بأن يذهبوا له في شقته برفقة أطفالهم، فطرح فكرته على بعض الأصدقاء؛ فوافقوا عليها جميعًا…

وفي صباح اليوم التالي، تجمعوا عند شقته، والأطفال يحملون في أيديهم الهدايا، وعلى رؤوسهم القبعات الملونة، طرقوا الباب، خرج لهم أحمد متثاقلًا، فتح الباب، وقف مذعورًا خائفًا عندما رآهم بكى، كأنه يريد مواساة نفسه باحتضانهم، أقبلوا عليه، عانقوه وهم ينادون “عمو أحمد”، “عمو أحمد”، ابتسم لهم، وهذه أول مرة يبتسم بعد الحادثة المريرة.

الأطفال وهم يلعبون معه، طلبوا منه أن يأخذهم بالقطار، صمت فجأة، ثم قال لهم: هيا بنا للشاطئ، توجه بالقطار إلى الشاطئ، وازدحم الأطفال حوله فرحين به، والسعادة تطوقهم، وتتراقص مع ضحكاتهم، وهم ينادون مع آبائهم: الحمد لله على السلامة، عودة حميدة “عمو أحمد”.. .
أغمض أحمد عينيه، وتذكر ابتسامة ابنه التي كلما أقبل عليه يصافحه بها، والتفت يمينًا، وتذكر ابتسامة زوجته، وهي تنظر لهما يبتسمان.



error: المحتوي محمي