واسأل قلبي عنك «3» والأخير

بعد محاولات عديدة للتواصل مع عماد، لم يرد على اتصالاتها، قلقت وردة، وقالت في نفسها: ربما أصابه مكروه. خطرت في بالها فكرة، ورددت: ماذا لو…؟!

أجرت بعض الاتصالات، وسألت عن بعض الأمور التي تنوي القيام بها. وفي صبيحة يوم الاثنين اتجهت وردة إلى المطار بعد الانتهاء من جميع التزاماتها، وقامت بحجز تذكرة للسفر إلى أمريكا، فهي تريد أن تهدي مفاجأة إلى عماد، المفاجأة التي تمناها؛ وتلتحق به، لتكمل دراسة الماجستير، أعاد لها التوجس والقلق: لماذا لا يرد على اتصالاتي المتكررة، إنه لأمر غريب، أخشى أن مكروهًا أصابه؛ هكذا تتمتم وردة في نفسها.

صعدت الطائرة للانطلاق إلى حبها وسعادتها، كانت تحلّق وسط الغيوم، وأفكار اللقاء، وخيلاتها النرجسية، تسيطر عليها، لتخيط ألف حكاية وحكاية، تنسجها واقعّا، يا ترى! كيف سأعيش مع عماد في أمريكا؟ تبتسم، وهي تضع إصبعها على خدها، تلمسه برفق. أخيرًا ستعانق أحلامها مع نبض قلبها، ستكمل دارسة، وفور عودتها ستقوم بتقديم أوراقها إلى الجامعة.

وصلت وردة إلى أمريكا، وأول مرة في حياتها تسافر إلى أمريكا، فهي لا تتقن اللغة الإنجليزية بشكل قوي، إلا من الشيء الذي يجعلها تستطيع تدبير أمورها.

الآن، وبعد مضي الوقت، تحط قدميها ولاية لوس أنجلوس، استقلت سيارة الأجرة، الواقفة على امتداد بصرها إلى مدينة عماد التي يسكنها، نبضاتها ترتعش من لفح المفاجأة، واللقاء القريب بالإنسان الذي عشقته. وفي طريقها إليه، كما أخبرها عن عنوانه في رسالته عندما وصل على أمل أن يأتي يوم وتزوره كما تمنى. فقد قطعت طريقًا طويلًا، وهي تنتظر بفارغ الصبر لحظة الوصول، كانت تنظر من خلال النافذة إلى الشوارع والمحلات، وترى الحياة بشكل مختلف في أمريكا، الباص والقطار، الأشجار وألوان الزهور، المباني الكبيرة، وتنسيقها الجمالي،
عندما ترى شخصين مع بعضهما تتخيل نفسها مع عماد، وتتمتم: بإذن الله قريبًا سأمشي معه، وأصابعنا تحتضن بعضها، وكلانا يحدق.

وصلت إلى العنوان، وما إن توقفت سيارة الأجرة: ما هذا؟! إنه شيء غريب، انقبض قلبها، أنفاسها مضطربة، ماذا حدث؟! حدّقت النظر، إنها سيارة الأجرة، ينزل منها عماد مع امرأة لا تعرفها! نعم، إنه عماد، يا للهول! من هذه المرأة؟! وماذا يفعل عماد معها؟!

نزلت مسرعة، وهي تصرخ بوجه عماد، من هذه المرأة، وتضربه فوق صدره، وعلامات المفاجأة، والاستغراب ظاهرة عليه، صرخ بذهول مرير: وردة؟!
وردة تترنح من هول الصدمة: من هذه المرأة؟! أجابها: إنها زوجتي.

صدمت وردة صدمة عمرها، تبخرت أحلامها في الطريق، جلست تبكي، وتندب حظها واختيارها، حاول عماد تهدئتها، ويشرح لها الموضوع، رفضت، واستقلت سيارة الأجرة التي كان ينتظر سائقها أن تعطيه أجرته، ورفضت الإصغاء إليه، أو الرد عليه.

ذهبت مسرعة إلى أول فندق رأته مرت عليه في الطريق، اتخذت منه سكنًا مؤقتًا بينما تفكر ماذا سوف تفعل؟، وصلت إلى حجرتها، وهي تبكي مصدومة من عماد، وكيف هانت عليه؟، تندب حظها، أتبكي فقد أمها، أم تبكي خديعة حبها، ونبض روحها وأمانها؟!، قطع حبل أفكارها اتصال منال، تسأل عن أحوالها، شعرت صديقتها بتغير صوتها، سألتها بقلق: ما بك يا وردة؟!، هل هناك أي خطب حدث إلى عماد؟!، هل هو بخير، طمنيني عليه؟!، أخبرتها وردة بما حدث، فانتفضت منال من الصدمة، كأنَّها لا تشعر بذاتها، تسمرت في مكانها، وتجمدت الكلمات بين شفتيها. بادرت إلى تهدئتها، تشد من أزرها، قالت لها: إن الله سبحانه وتعالى، يكتب للإنسان كل خير في أموره مهما حدث، ومهما صار، لتكوني قوية، وحاولي استيعاب الصدمة.

اتصلت منال بابنة خالتها غادة في أمريكا، فهي تسكن في ولاية لوس أنجلوس، حيث تدرس الطب منذ ثلاث سنوات، وطلبت منها الذهاب إلى وردة في الفندق الذي تسكن فيه، لتكون بجانبها، وتهدئها، وتساعدها فيما تحتاجه، لتكون رفيقتها في غربتها!

البعد عن الوطن والأحباب، والجرح، الذي يخلّفه الآخرون في حياتنا، من نحبهم بعمق يجرحوننا بعمق أكثر.

لم يتوقف عماد عن الاتصال بوردة، وهي لا ترد، عندما تركته حاول اللحاق بها، ولكنه ضيعها، كما أضاعها من قبل. كانت الأفكار والتفكير الذي لا يهدأ، يسيطران على وردة، فهي تبكي فقد والدتها في هذه اللحظة؛ لأنها لو كانت موجودة لخففت عنها، لشعرت بأن حزن الدنيا قد امتصته روحها الجميلة، إن الأرواح التي ترحل عنا، ترحل أجسادها فقط، ولكن أرواحها تبقى معنا، تطبطب على أرواحنا، إن عصفت بها الخذلان، والانكسار، وتصاريف الحياة.

حضرت غادة إلى وردة، وطلبت منها أن تخرج معها، لتريح نفسها، وتشم الهواء العليل، وتبعد تفكيرها عن عماد، لتفكر في المستقبل، ماذا سوف تفعل، وكيف تتصرف؟!

استأنست وردة برفقة غادة، وأصبحت صديقتها التي تتواصل معها يوميًا، غادة إنسانة متواضعة، روحها شفافة، حين تراها، وتسمع كلماتها، تدخل قلبك بلا استئذان، تواعدتا في يوم السبت، تأخذها غادة إلى المجمع، وأخذ جولة حول المدينة لتتعرف على معالمها.

وردة تفكر في شيء ما، تبدأ به حياتها، فهي تشعر بكآبة ووحدة وألم، كيف ستكمل حياتها بعد أن فقدت والدتها، وخيانة خطيبها لها، وزواجه من فتاة أخرى، أحست بضيق، وطلبت من غادة أن تعيدها إلى الفندق، رجعت وردة الفندق، لكنها لم تكن وردة الأمس، بل ستكون إنسانة جديدة، لم يعرفها أحد من قبل، استلقت على فراشها، جلست وردة تمعن التفكير في المستقبل، تضع الخطط، تبحث في الإنترنت، ستبدأ بالالتحاق بالجامعة، تستغل وجودها بدلًا من أن تعود خالية الوفاض، أن تتمسك بفرصة إكمال دارسة الماجستير، وتعود إلى وطنها، وقد أكملت تعليمها، لتحقق طموح والدتها، هي الخطوة الأولى، تحدث نفسها، وتستقر على هذا.

إنه من رحم الألم والخديعة والمعاناة، تولد الرغبة والتحدي والإصرار، لنبادر إلى تحقيق أحلامنا.

مرت الأيام، تعرفت وردة على المدينة أكثر، التحقت بالجامعة، كونت لها صداقات رائعة، أصبحت تدريجيًا، تنسى ما خلّفه عماد في حياتها، وبدأت تتأقلم على وضعها الجديد، لا تعاني من الوضع المادي، فقد تركت لها أمها إرثًا، تستطيع به أن تمارس حياتها بشكل طبيعي مريح.

أرسلت إلى عماد رسالة، تطلب منه فسخ الخطوبة، وأن يرسل لها ورقتها في أسرع وقت. ورتبت أمورها وسجلت في الجامعة، واختارت لها سكنًا قريبًا من الجامعة بمساعدة الأصدقاء، اعتادت وردة على الحياة في أمريكا، فهناك الكثير من المغتربين العرب الذين يساعدونها، أي عقبة تقف في طريقها، تجد من يساعدها، دعاء والدتها يلازمها على الداوم. انشغلت وردة بالمحاضرات في حياتها الجديدة، يومها يزدحم بالالتزامات، وفي وقت الراحة تقوم بالخروج مع صديقاتها من العرب، تتقدمهن غادة التي كانت بلسم جراحاتها وأنيس غربتها.

بعد فترة حادثتها منال بعدما اطمأنت عليها، وأنها استطاعت تجاوز المعاناة، فأخبرتها بأنها تريد الحديث معها عن موضوع مهم جدًا، وطلبت منها ألا تزعل منها. أصاب وردة القلق من كلام منال، وأصرت عليها أن تخبرها بما تريد، استجمعت منال قوتها، وأخبرتها بأن أخيها ياسر، يريد أن يتقدم لخطبتها، والزواج منها، فإن رغبته بالارتباط بها، كانت قديمة، وعندما قرر أن يتقدم لها، سمع أن عماد تقدم لها، فتوقف، وبعدما عرف بطلاقه فورًا طلب مني أن أخبرك.

وقفت مذهولة، تخاطب نفسها: ألا يكفي ما حدث في حياتي؟! صمتت وردة، لا تعرف ماذا تجيبها، فهي لا تريد الزواج بسبب تجربتها الأولى، تخشى أن يكون جميع الرجال كخطيبها.

قطعت عليها الصمت، منال تخبرها عن أخيها ياسر، الذي يعمل مهندسًا في إحدى الشركات المرموقة، تحاول أن ترسمه بالكلمات، لتأخذ عنه فكرة واسعة، وقد ابتعثته الشركة التي يعمل بها إلى أمريكا. وتواصل منال الحديث، ولاتزال وردة تصغي دون أي كلمة: أعرف شعورك، وماذا ستقولين في داخلك، أعرف أنك إلى الرفض أقرب من القبول، ولكن أقترح عليك أن تقبلي التحدث مع أخي ياسر، امنحيه الفرصة، وإذا لم يلاقِ منك استحسانًا أو قبولًا، فهذا شأنك، ارفضيه، ليس هناك إجبار أبدًا، فلا تحرمي نفسك فرصة التفكير، لعله يكون فرجًا لكما.

جلست وردة تفكر، وهي في صراع مع نفسها بين القبول والرفض؟ أسئلة كثيرة، تتعارك في عقلها ونفسها: هل تكرر التجربة مرة ثانية؟ كيف ستضمن نجاح التجربة؛ سأتوكل على الله، وأفوض أمري إليه، هكذا تمتمت وردة في نفسها.

تحدث ياسر معها ذات مساء بارد، وأخبرها عن نفسه وحياته وطبيعة عمله، وحدثته عن حياتها وظروفها ودراستها، طلبت وردة من ياسر أن يعطيها وقتًا للتفكير، واتخاذ القرار المناسب لها، وبعد وقت ليس بالكثير، وافقت وردة على الارتباط بياسر، تزوجا بعد أن بارك الله لها هذه الخطوة، واختار سعادتها بأن تكون مع قلب ياسر.

مهما عصفت بنا الحياة وآلمتنا، فإن الله سبحانه وتعالي، يختار لنا الصالح من أمورنا، فليس الألم مستمرًا، وما هو إلا طريق، سنعلم بعد حين أن السعادة والراحة ستعانقنا، نعم! ولو بعد حين.



error: المحتوي محمي