إن لمحة سريعة على نظريات علم النفس تكشف نتائج مبهرة لكنها تعكس أيضا تعارضا شديدا، فمثلا:
• يرى فرويد (في مدرسة التحليل النفسي) أن طبيعة النفس هي الصراع و العدوانية و الغريزية و يركز على ماضي الفرد و طفولته المبكرة،
• بينما يرى كارل روجرز (مدرسة النفس الإنسانية) أن طبيعة النفس هي الإيجابية و التطلع الى تحقيق الذات فيركز على الحاضر و المستقبل،
• يلعب اللا وعي الدور المهم في تحديد حالة النفس و سلوكها في مدرسة التحليل النفسي،
• بينما تتجاهل المدرسة السلوكية اللا وعي و تركز على البيئة، و ترى ان السلوك هو استجابة نفسية نتيجةتأثير مثيرات داخلية و خارجية،
• المدرسة المعرفية ترى أن الإستجابة النفسية ليست مباشرة بل تحدث بعد عمليات معرفية تتمثل في تقييم المثيرات و إدراكها عقليا و استرجاع الذاكرة و الخبرة السابقة و تقرير الإستجابة المناسبة إزاء المثير.
من الواضح أن كلّ مدرسة ركزت على جانب مهم لكنها أغفلت جوانب آخرى، فحققت نجاحا في علاج بعض الإضطرابات النفسية و وضعت تصورا خاصا عن السلوك، لكنها تعارضت مع المدارس الأخرى و عجزت عن إدراك النفس كاملة.
هل نحتاج الى نظرية متكاملة في علم النفس تحلّ هذا التعارض و تعطي فهما أكثر دقة و موضوعية عن جوانب النفس الإنسانية؟ يذكرنا هذا بنظرية أرسطو و بطليموس في مركزية الأرض فقد عاشت الفي عام لأنها لبـّت بعض الحاجات، حيث أصدرعلماء الفلك آنذاك زيجات تتنبأ بشروق الشمس و غروبها و حركة الكواكب و تغير الفصول السنوية، لكنها لم تجب على أسئلة مهمة مثل حركة بعض الكواكب و التي كانت تسرع أحيانا وتتباطأ أخرى فلذا سميت بالكواكب المحتارة، حتى جاء كوبرنيكوس و أثبت مركزية الشمس و وجد حلولا علمية لحركة الكواكب مؤذنا بميلاد عصر جديد من علم الفلك.
فهل نحتاج الى نظرية جديدة تؤذن بميلاد عصر جديد في علم النفس؟ نظرية تدرس أعماق النفس الإنسانية، و الإطار الفكري للسلوك و الإنجاز و جوانب آخرى.
نظرة في أعماق النفس الإنسانية:
• الحياة تقوم على قوى الإنسان المختلفة: الجسدية و الفكرية و الاجتماعية و الغريزية و الغضبية و الروحية. فكل إنسان يستخدم قواه البدنية في عمله، و تفكيره في تخطيطه، و علاقته الإجتماعية للعمل مع الآخرين، و غرائزه الحياتية كالطعام و الشراب لضمان حياته، و الغضبية ليتنافس و يتدافع مع بقية البشر، و الروحية إذ نراها واضحة بصور متعددة. هذه القوى قد تدفع في اتجاهات متناقضة، فالغريزية مثلا تسعى وراء اللذة السريعة بينما الفكرية و الروحية تتطلع الى اللذة البعيدة المدى، و الغضبية تدفع للتنافس مع الآخرين بينما تسعى الإجتماعية لتوثيق العلاقة بهم، لذلك تحتاج النفس الى توازن هذه القوى المختلفة، فكيف يتحقق هذا التوازن؟
• تتأثر النفس بالوراثة و البيئة، فالإنسان يرث جيناته و مستوى أسرته الإقتصادي و التعليمي و الإجتماعي و الظرف الذي ولد فيه زمانيا و مكانيا، و يتأثر ببيئة الأسرة و تربيتها و أقرانه و مجتمعه و مدرسته و تخصصه و عمله،
• علاقة الفرد بالمجتمع: يعيش الإنسان في تجمعات أسرية وقبلية و مجتمعية و تخصصية، و كل تجمع له أعرافه و عاداته و قيمه التي يتربى عليها فتكون عقله الجمعي، لكنه في نفس الوقت يفكر و يختار و يتصرف، اذن فعلاقة الفرد بالمجتمع لا تسلب منه الإرادة و حرية الإختيار، بل تعتمد على شخصيتهفهل يمارس دوره كلاعب مؤثر في المجتمع، او يستسلم كاملا لإرادة المجتمع، او يمارس لعبة الشد و الجذب؟
• تملك النفس الإرادة في الإختيار، لذا فهي مسؤولة لأنه لا معنى للإرادة بدون مسؤولية. لكن الفرد مسؤول أمام من؟ هل هومسؤول أمام ضميره و هذا لا يحقق الأثر، او أمام مجتمعه و هذا يضعف دوره التغييري و يسلبه حريته؟ اذن أمام من ستكون المسؤولية؟
• هل طبيعة النفس غالبا إيجابية او سلبية؟ تعيش النفس حبا شديدا لذاتها، فتنزع غالبا للنتيجة المادية السريعة، حيث تسعى لإشباع غرائزها و تحقيق مصالحها المادية على حساب الآخرين، لذا فهي تحتاج الى توازن دقيق يحقق حبها الحقيقي لذاتها دون أن يضحي بمصالح الآخرين و بالأهداف البعيدة المدى، فكيف يتحقق هذا التوازن؟
• تعلم النفس جيدا الماضي و الحاضر لكنها لا تعرفشيئا عن المستقبل، بل تتفاجأ بالكثير من الأخبار السيئة عن موت الآخرين و الكوارث الطبيعية، مما يجعلها في قلق وجودي شديد. هذا القلق يسلبها السعادة و الطمأنينة فهو تهديد دائم بتغيير سريع في هذه الحياة، فسؤال ماذا يحدث بعد الموت يعتبر مصيريا لتحقيق السعادة،
• اذا كانت النفس في سعي حثيث لتحقيق المزيد من الأهداف المادية الأنانية و إشباع الغرائز، فستعاني من عطش لا ترويه الغريزة، لأن هذه الاهداف سرعان ما ينتهي زهوها فتستمر النفس في لهث دائم و هي تظن أن ذلك يحقق سعادتها، بينما هي تلهث وراء سراب لا يروي عطشها. اذن فالهدف المادي لا يحقق السعادة، بل لابد من جانب معنوي يسعى لتحقيقه الإنسان، فما هو؟
• هل الدافعية للعمل إشباع الغرائز؟ هذا لا يفسر الإيثار و البطولات والحضارات. او الدافع للعمل تلبية حاجات مادية حياتية او تحقيق الذات؟ هذا لا يفسر الإيثار و العمل لأجل الآخرين. او الدافع للعمل استجابة لمؤثرات بيئية؟ هذا لا يوضح دور الإنسان فيها. اذن لابد أن تتكامل الدافعية مع المسؤولية و توازن القوى و الأمور الآخرى، فكيف يكون ذلك؟
• الإرادة قد تنكسر أحيانا، فتتعطل الخطط و تنتهي الطموحات نتيجة التنافس و التدافع البشري و التغير السريع، فكيف يمكن للنفس أن تواصل السعي رغم الصعوبات؟ كيف يمكن لهذه الطاقة الدافعة أن تستمر بكل قوة و اصرار؟
• تتأثر النفس بالماضي و الحاضر و المستقبل، فكيف يمكن للنفس أن تتغلب على سلبيات الماضي و تفتح صفحة جديدة؟ هل هناك وسيلة لتصحي المسار و طمأنة الضمير و معالجة التأنيب النفسي الشديد؟ لا يمكن للنفس أن تحس بالراحة إلا اذا وجدت وسيلة مناسبة للتكفير عن خطيئة الماضي و الإنطلاق بنفس مطمئنة نحو المستقبل، فما هي هذه الوسيلة؟
• زعم فرويد أن الدين مرض عصابي أحتاج له الإنسان كحيلة دفاعية ضد الموت و مشاكل الحياة فالإله يلعب دور الأب في العائلة، فهل هذا صحيح؟
لا نهدف هنا الى إثبات الخالق و الرسل و الكتب السماوية، بل سنحاول معرفة ما ذا يستطيع الدين أن يحققه في أعماق النفس الإنسانية:
o الإيمان بخالق له أعظم صفات الكمال والجلال و الجلال فهو العالم الكريم الرحيم القوي الحبيب، قهو مثل أعلى كرّم الإنسان و خلقه و حمّله مسؤولية الخلافة و اعمار الأرض، بل و خلقه قادرا على أن يتحلى بصفات الكمال و الجمال، و أودع في نفسه قطرة صافية جميلة، و جعله حرّا يختار طريقه في الحياة، هذا التسامي و التكامل نحو هذا المثل الأعلى الذي ليس لجماله حدود هو المعنى الحقيقي لحياة الإنسان،
o الإيمان بالحياة الآخرة التي يرى فيها الإنسان جزاء أعماله الدنيوية من الجنة للمحسنين و النار للمسيئين، فيتحقق فيها الحب الحقيقي للذات، فكل إيثار او بطولة دنيوية تعتبر رصيدا عظيما للنفس في العالم الآخر، فالأعمال الصالحة تكتبحسنات تؤهّل للجنة بكرم الله فهي تعزز الأعمال الصالحة، و كل سيئة يتم رصدها و التهديد عليها لوأدها و القضاء عليها. هذا يوضح مسؤوليةالإنسان فهي أمام الخالق و نتيجتها السعادة الدنيوية و الأبدية في جنات الخلد،
o لم يترك الخالق الإنسان تائها بل أرسل الرسل و الأنبياء و معهم الأوصياء الذين بلغوا الكتب السماوية و التشريع الإلهي فهم قدوة للبشر في أخلاقهم الفاضلة،
o هذا التشريع يؤمّن التوازن المطلوب بين حقوق النفس و حقوق المجتمع، و يلبي الغرائز بالطرق المشروعة، حيث تعتبر رصيدا يعزز مكانة الإنسان مع خالقه،
o يؤمن الدين بأثر المثيرات على سلوك الإنسان، لذا يأمره مثلا بغض البصر عن المحرمات حتى لا يدفعه ذلك الى المزيد من الإنحراف،
o بشّر الخالق النفس البشرية بأن أي خطأ او انحراف يمكن التوبة منه و الإستغفار عنه بل قد تمحى السيئات و تستبدل بحسنات، هذا هو خير علاج لتأنيب الضمير،
o الخالق (المثل الأعلى) هو مع النفس في حياتها و هو يمدها بالعون و التوفيق على طول الطريق لتنتصر على نوازع الشهوة و الأنانية التي تبعد النفس عن الصراط المستقيم، فهو دافع قوي لشد العزم و الإصرار و الصبر على مصاعب الحياة،بل إن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب،
o الموت لا يسبب قلقا وجوديا بل هو انتقال للقاء الحبيب و هو الرب الرحيم و المثل الأعلى، لذا قال الإمام علي بن أبي طالب عند لقاء ربه (فزت و ربّ الكعبة)،
o الفرد ليس أسير مجتمعه، بل هو حر مختار و عليه أن يبدأ بتغيير نفسه أولَا ثم ينطلق في العمل مع الآخرين بالحكمة و الموعظة الحسنة، ( إنّ الله لا يغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
الإطار العام للسلوك:
• السلوك هو تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان و مع بيئته و مع خالقه. و هذا السلوك هو إرث انساني منذ مطلع الخليقة و لكن الدين جاء متمما لمكارم الأخلاق و عزّزالأخلاق الحسنة إذ وعد بالثواب عليها و هدّد بالعقاب الشديد لتصحيح السلوك المنحرف. فجاء تشريع فقه العبادات لتعميق علاقة الفرد بخالقه مما يعود عليه بالخير و الطمأنينة، و جاء فقه المعاملات لتشريع التعامل بين البشر و للحفاظ على حقوقهم. و شرّع السلوك مع البيئة فأمر بزرع الفسيلة حتى في آخر لحظة، و عدم الإسراف في الماء حتى لو كان على ضفة نهر، و شجّع على اعمار الأرض فمن أحيا أرضا فهي له.
لقد سبق الدين ايمانويل كانت في التأكيد على أهميةالنية الصادقة في تحديد الأخلاقية المطلوبة، فقرّر الدين أن الإخلاص في العمل العبادي شرط في قبول العمل، و ان الرياء و هو أداء العمل فقط لأعجاب الآخرين محبط للعمل. هذا يندرج على سلوك الفرد بصورة عامة، فالنية الصادقة مقياس لجمال السلوك و ليس فقط الفعل السلوكي نفسه.
الإنجاز:
• كيف نرفع الإنتاجية اي الإنجاز في جميع شؤون الحياة العملية؟
عرّف سليجمان الإنجاز بحاصل ضرب الكفاءة في المثابرة:
الإنجاز = الكفاءة * المثابرة
لعل معادلة سليجمان تعكس خلفية سليجمان الغربية التي تركز على الفردانية المادية. بينما نهتم هنا بالأثار الفكرية و الروحية و الجماعية. لذا نحتاج أن نضيف عاملين آخرين، لا يقلان أهمية، وهما الاستقامة وروح الفريق.
لذا فمعادلة الإنجاز، كما نراها نحن، هي:
الإنجاز = الكفاءة * المثابرة * الاستقامة * لذة العمل مع الفريق
اختصارها (ك م ا ل)
الإستقامة هنا هي النية الصادقة و السلوك الذي تؤيده الأخلاق الإنسانية و لا يتعارض مع تشريع الخالق.
أوضحنا هنا أنّ نظريات علم النفس رغم أهميتها لم تعالج كل أعماق النفس الإنسانية بل بقيت متعارضة أحيانا. بينما يلعب الدين دورا بارزا للإجابة على كل الأسئلة المطروحة فهو يسبر أعماق النفس الإنسانية و يرسم طريقها نحو التكامل، و لا عجب في ذلك فهو استجابة لفطرة الإنسان التي خلقها الله عليها، و شرّع لها ما يناسبها ويفجر طاقاتها الكامنة ويحقق سعادتها، و الحمد لله ربّ العالمين.