مفاهيم مغلوطة عن المناعة الطبيعية

هناك أشياء نتصورها ونصدقها، ولكنها ليست بالضرورة حقيقية، فكثيرًا ما نقرأ أو نسمع عن الجهاز المناعي، وكثيرًا ما يشار إليه بعبارات أو مفاهيم تصف كفاءته بالقوة، مثل: رفع المناعة، تقوية المناعة، تنشيط المناعة، تعزيز المناعة، تحفيز عمل الجهاز المناعي أو تحسينه، ربما تكون الاختلافات بين تلك المفردات قليلة كونها تصب جميعها في الوظيفة الطبيعية للجهاز المناعي، فما الذي يدعونا إلى التوقف أمام مفاهيم تصب معظمها في دور الجهاز المناعي؟ لقد جرت العادة أن يستخدم الناس عبارات ومفاهيم تروق للكثيرين كونها شغلت بالهم في الآونة الأخيرة، فمن الضروري حقًّا أن نتعرف على حقيقة تلك المفاهيم عن كثب، وما يمكن أن يُقال بشأنها.

كثرة الحديث عن المناعة لا تعني بالضرورة أننا نفهمها بشكل صحيح، الكثير من العبارات والمفاهيم تحولت لدينا إلى حقائق كأن نقول: “الغذاء المتوازن والعادات الصحية ترفع مناعة الجسم” والواقع ليس هناك في قاموس الصحة مصطلح اسمه “رفع المناعة” أو “تقوية الجهاز المناعي”، بل هناك مناعة قادرة ومتمكنة من القيام بعملها الطبيعي، ومناعة غير قادرة، والمناعة القادرة تستمد قدرتها من مجموعة معقدة ومتداخلة من العديد من المركبات المختلفة متصلة ببعضها بعضًا، وتعمل على أكمل وجه في مختلف أجزاء الجسم، وتتكون من مليارات الخلايا المناعية والمواد التي تتحكم فيها، وتسيطر على كافة الأنظمة المختلفة التي تعمل تحت إمرتها، وتعد بمنزلة جنود تحمي الجسم من الأمراض.

لا شك في أن أعظم ما يرغب به الإنسان هو أن تكون لديه قوة لا تعرف الكلل وأن تكون الصحة كالحديد! فأين يمكننا أن نحصل على هذه القوة؟ وحدة الجهاز المناعي القادر على إعطاء الجسم، مثل تلك القوة، ولكن ماذا نعرف بالتحديد عن جهازنا المناعي؟ هو نظام لمناعة الجسم ضد الأمراض، يسمح له بالتعرف على الميكروبات الضارة وإبادتها أو على الأنسجة الغريبة من خلال إنتاج الخلايا المناعية للأجسام المضادة، فعندما تهاجم مئات الآلاف من الميكروبات خلايا جسمك، يقوم جهازك المناعي بالتنسيق بين أنظمة دفاعية معقدة، ويتواصل معها عبر مساحات شاسعة، ويتسبب في الموت السريع للملايين، إن لم يكن المليارات من الميكروبات، وما نشعر به من أعراض جانبية كرشح الأنف أو درجة الحرارة المرتفعة أو إلتهاب الحلق أو الشعور العام بالتعب والإعياء، هو في الحقيقة من آثار المعركة الدائرة داخل الجسم، والتي لا نستطيع أن نبصرها، والسؤال المهم هنا هو: هل هذه المناعة القادرة تكفي للوقاية من الفيروسات أو الأوبئة التي تفتك بنا؟

من نعم الخالق – عز وجل – علينا أنه زود أجسامنا بمواد طبيعية قادرة على درء الأخطار عن أجسامنا، وتبطل العمليات التأكسدية، وهي نظام دفاعي مذهل ورائع يقف المرء أمامه منبهرًا ، فلو أراد عدد كبير من البشر أن يحموا مكانًا ويحصنوه لما استطاعوا أن يفعلوا ذلك بهذه الكيفية.

فها هو الجلد بإفرازاته من العرق يقف حائلًا دون غزو الميكروبات، وإذا استطاع جسم غريب اختراق هذا الجلد تتصدى له كرات الدم البيضاء، وإذا تمكن من الهروب تتعرف عليه الخلايا الليمفاوية المتخصصة وتفرز الأجسام المضادة والقاتلة للقضاء عليه، بل إنها تضع بياناته في الذاكرة لسرعة التخلص منه في المرة القادمة، ثم تأتي الخلايا البالعة لتبتلعه وتقضي عليه تمامًا، ولو جاء هذا الجسم الغريب عن طريق الفم لحالت اللوزتان دون مروره، وإذا مر تقضي إفرازات المعدة عليه، بينما يمنع حائط الصد في القناة الهضمية مروره إلى الدم، ولو مر إلى الدم لهاجمته الخلايا البيضاء بسرعة!

وتبدأ كفاءة جهاز المناعة منذ الصغر، فالطفل الذي يرضع رضاعة طبيعية تكون صحته جيدة؛ حيث يستمدها من قدرة جهازه المناعي، فالأم التي ترضع ابنها لا تعطيه لبن الرضاعة أو الحنان فحسب، بل تعطيه أيضًا حماية ضد العديد من الأمراض المعدية، فلبن الرضاعة يحتوي على مركبات عديدة، مثل: الأجسام المضادة، ويكتسب الرضيع حماية ضد الميكروبات الممرضة التي تتعرض لها الأم، فلبنها يحتوي على عدد كبير من كرات الدم البيضاء، وبخاصة لبن السرسوب الذي يحتوي على عدد كبير من الخلايا البالعة والخلايا التائية.

ونحن نواجه أخطار انتشار أوبئة فتاكه، يصعب التغلب عليها، وحده الجسم القوي يستطيع أن يدافع بنفسه ضد تلك الأخطار. إذًا… جهاز المناعة مسؤول عن حماية الجسم من غزو الميكروبات والمواد الغريبة الضارة ولا يدمر خلايا الجسم، فبعد ظهور فيروس كورونا الشرس، وأمام مشاهد الخوف والهلع والشعور بالعجز في مواجهة هذا الوباء الذي فتك بالبشر، ولا سيما في ظل تلك السهولة التي تمكن فيها الفيروس من الانتشار بسرعة في زمن وجيز، ويأتي كل مرة بشكل جديد وهوية مختلفة، أيقظتْ فينا تساؤلات، وترسختْ لدينا قناعات؛ بالبحث عن مأمن يحمينا من تلك الأخطار المحدقة، بعد أن جربوا وسائل مختلفة للتعامل مع الأوبئة الفتاكه، فطبيًّا يلجأ الطبيب إلى المضادات الحيوية واللقاحات والمسكنات، وهذه العلاجات ما هي إلا عوامل مساعدة للتخفيف من أعراض سيطرة الفيروس، ومن هذا المنطلق بدأ كثيرون يلتفتون إلى المناعة الطبيعية ويتحدثون عنها اليوم أكثر من أي وقت مضى، فقد أدى الوباء إلى دخول مصطلحات جديدة في قاموس حياتنا، فنحن نتحدث عن المناعة الطبيعية في الأشخاص الذين تعافوا من كوفيد – 19 أو المناعة التي وفرتها اللقاحات، الوسيلة الوحيدة من الموت السريع في نظر منظمة الصحة العالمية. إذن… اللقاحات، الجرعات المنشطة، الأعراض الجانبية، التعافي، أصبحت كل هذه الأمور موضوع حديث الساعة.

والمناعة تحتاج إلى أشياء كثيرة لكي تقوم بوظيفتها ووضعها الطبيعي، واستدامة قدرة المناعة على ممارسة عملها الطبيعي ليست لرفع معدل المناعة في خط فوق الطبيعي، فلا عسل ولا بصل ولا طعام خارق أو أقراص خارقة تكفي لدعم المناعة، نعم هي جزء من النظام المناعي وتزودنا بكل ما يحتاجه الجسم من غذاء، فالجهاز المناعي ينتج مليارات من الخلايا والبروتينات المناعية الجديدة طوال الوقت، وهذه الخلايا بحاجة إلى أن تتغذى لكي تؤدي وظائفها بشكل أفضل، كما أن الرياضة تساعد على إبطاء اضمحلال تلك الخلايا مع تقدمنا في العمر، والجهاز المناعي ليس شيئًا واحدًا، إنه مجموعة ضخمة من أشياء مختلفة؛ أحدها الغذاء المتوازن، وتستكمل السلسلة بالأنشطة البدنية والتمرينات الرياضية بصفة منتظمة، والراحة النفسية والعصبية والابتعاد عن التوترات الحياتية، والنوم الكافي، وخلو الجسم من الأمراض المزمنة أو المستعصية، والعوامل الوراثية، أضف إلى ذلك الابتعاد قدر المستطاع عن تناول الأدوية الكيميائية والأغذية المصنعة، هذه سلسلة من الأشياء الضرورية لعمل الجهاز المناعي بأقصى طاقته، فالخوف مثلًا قد يؤدي إلى عرقلة عمل الجهاز المناعي وإحداث خلل في توازنه، فحين نفقد جزء من أجزاء المناعة، تقل فعالية مقاومتنا ويصعب علينا مواجهة العديد من أمراض العصر.

إذن… لماذا يصاب بعض الناس بالأمراض والأوبئة أكثر من غيرهم؟ الحقيقة هي أننا لسنا متماثلين في اختيارات أنماط حياتنا، فهناك أشخاص يعتنون بأجسامهم وأعصابهم ونشاطهم البدني لكونهم يملكون جهازًا مناعيًّا قادرًا على القيام بمهامه الصحية، بينما آخرين دفعوا أثمانًا غالية من حياتهم بسبب حدوث خلل في جهازهم المناعي نتيجة تدني مستوى صحتهم، فهم يحتاجون لفترة طويلة في العلاج، وهم أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بالأمراض المعدية.

لقد كان الناس فيما مضى مليئون بالعنفوان والقوة، هم يعتمدون على الطبيعة وحدها فيما يأكلون وما يشربون، كما يعتمدون عليها في علاج أمراضهم ودرء الأخطار عن أجسامهم، وعندما جاءت الأدوية الكيميائية التي صنعها الإنسان، كشفت عن الدور الخفي الذي تلعبه المخلفات الكيميائية، وعن آثار جانبية كثيرة، معظمها خطيرة، أفسدت الأجسام وحرمتها من وسائل الدفاع، فأنقصت من مقاومة الأجسام، ووقعنا في براثن الأمراض.

والأشخاص الذين يصابون بالضعف والتعب والإنهاك والاضطراب وانحطاط القوى يرتكبون غلطًا كبيرًا عندما يلجأون إلى الأدوية الكيميائية المصنعة، فهم حرموا أجسامهم من الأغذية المقوية الموزونة، التي صنعتها يد الخالق عز وجل، فالأدوية التي عكف العلماء والأطباء في العصر الحديث ليل نهار على اتحاف الإنسانية بها لدرء أذى الأمراض، وتخليصها من شر الألم والعذاب، تحولت إلى معاول تعمل في أجسامنا تخريبًا، أصبحنا نستعملها كيفما اتفق، ونتناولها كيفما كان، فيما ينفع وفيما لا ينفع؛ مما سببت لنا إضعاف مقاومة أجسامنا، واضطرارنا للاعتماد على الأدوية في اصطناع المقاومة في الأجسام، بدلًا من الاعتماد على الوسائل الطبيعية التي جهز الجسم بها.

ولقد خلصت التقارير العلمية الحديثة إلى أن الأدوية الكيميائية إن شفت عرضًا لكنها لا تشفي مرضًا، لذلك تحولت الأمراض إلى أمراض مزمنة، وظهر الاتجاه القوي نحو العودة للطبيعة.

الجميع يزعمون أنهم يعرفون شخصًا لا يمرض على الإطلاق، ولكن ذلك مخالف للواقع، كثير من الأشخاص أصيبوا بأمراض في فترة من فترات حياتهم، وهذا ما يحتم عليهم معرفة التبدلات التي تطرأ على أجسامهم، وأن يعرفوا كيف يتداركونه ويعالجونه.

ربما تكون الصورة قد اتضحت الآن حول أهمية الجهاز المناعي، إنه جهاز شديد التعقيد يتكون من العديد من المركبات المختلفة، والجهاز المناعي الذي يعمل على أكمل وجه يجيد استخدام القدر اللازم من القوة ضد أي عدوى يتعرض لها الجسم، ومن ثم فإن تقوية تلك الأنظمة لكي تصبح أكثر فتكًا هو في الحقيقة فكرة غير صحيحة، فالمبدأ دائمًا هو كيف نقهر المرض؟ إن واظبت على تناول أغذية طبيعية، ومارست تمارين رياضية، وابتعدت عن الضغوطات الحياتية، يظل الجسم قادرًا على المقاومة ويعطيه القدرة على الدفاع ضد المرض، وتترك فينا الأثر الحسن، ونكون على الطريق الصحيح لجسم قادر على الإنتاج والعمل بقوة، تحفظ صحتنا، وتعطينا القوة والنشاط وبهجة الحياة!

وإن كل شخص يبقى في صحة جيدة قبل وقوعه في المرض، المهم أن يعرف قيمة الصحة الجيدة ويكافح لإبقائها، وإذا صدف أنكَ لم تمرض منذ وقت طويل، ولم تراجع طبيبًا، ستدرك يومًا أن مناعتك حمتك من الأمراض.

وأخيرًا، ولو تساءلنا ما هي آليات الشفاء الطبيعية؟ نجيب بأنها عبارة عن الركيزة الوحيدة التي يرتكز عليها الإنسان في التغلب على المشاكل الصحية، وأيضًا التغلب على ما يعترضه من عقبات، ولعل هذه النعمة من أعظم النعم التي أنعمها الله سبحانه وتعالى على عبده وسخرها لمواجهة مشاكل الحياة، فسبحان الله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه.

منصور الصلبوخ – أخصائي تغذية وملوثات.



error: المحتوي محمي