سافر عماد إلى أمريكا لإكمال دراسة الماجستير في إدارة الأعمال، سافر ولكنه ترك قلبه مع وردة، المقعد في الطائرة خالٍ من ظلها، تمتم بكلمات يعتصرها الشوق في نفسه، آه..، يا وردة، لكم تمنيت أن أصل إلى أمريكا وأنتِ كالغيمة الزرقاء، ترفرف على ملامحي، تشاركني رحلة الأحلام والأمنيات.
أين أنتِ يا مليكة قلبي؟ فقد اتفقنا على تأثيث مستقبلنا، ونسجنا أحلامنا؟ لما هذا الفراق، آه..، يا وردة تفاصيلي الباكيات على فراقك، إنها الظروف يا روح الحياة، ونبضاتها الباسمات، فلا تعانق وجنتيك، أصابعي الولهى.
وعلى الجانب الآخر وردة تعيش على ذكريات عماد شريكها، ونصفها الثاني الذي لم تكتمل لحظاتها، لتكون عروس له، وتجمع خطواتهما الأنحاء، والأشياء والأنفاس.
الآن.. تبكي وردة؛ لأنها تتمزق.. إنها تعيش صراعًا نفسيًّا، طالما تحدث نفسها: هل اختيارها صحيح أم لا؟، ماذا لو تركت أمها؟ فإنها لن تضيع، تتركها في المستشفى خاضعة للعلاج، لن يضرها شيء، لتقوم بالاهتمام بنفسها، كان ينبغي عليها أن تكون مع عماد في سفره، تستيقظ من هذه الأفكار، تستعيذ بالله من هذه الأفكار السوداء، فكيف تترك أمها، وهي من ربتها وسهرت، وتعبت عليها كل هذه السنوات، أهكذا يكون الإحسان؟!
لاحت في خيالها صورة أمها، عندما كانت تعد لها وجبة الإفطار، توصلها إلى المدرسة يوميًّا، تمسك يديها، تهمس في أذنيها بالتوصيات، والدعاء.. وتسهر على رعايتها عندما يداهمها المرض، اختنقت بعبرتها، وانهمرت دموعها على وجنتيها، تتمنى لو تقطع من صحتها وعافيتها وتعطيها لأمها، لتتعافى.. وهل ستوفيها حقها؟!، بالطبع لا.
تقول وردة: إنها أمي، التي أفنت حياتها في سبيل تربيتي، لأكبر، ها قد أصبحت معلمة، ومربية أجيال، لطالما كانت تردد ابنتي المعلمة وردة، فخري وثمرة جهدي وصنيعتي.
لم تقطع وردة التواصل مع عماد عبر قنوات التواصل الاجتماعي من خلال الاتصال حينًا والرسائل في أحيان أخرى، يبثها شوقه وأمنياته، وتبثه آمالها وأشواقها، وتعده بأن القادم أجمل، ربما هناك خيرة، ربما هناك أمل لم نبصره، ليأتي كضوء الشفق في الصباحات الندية… هكذا كتبت وردة في نص رسالتها إلى عماد الأخيرة، وهل ستكون الأخيرة، ربما؟
اشتدَّ المرض على والدة وردة، أصبحت تنام باستمرار، ولا تأكل إلا قليلًا، وترفض أخذ الدواء، وردة، تتمتم بحسرة في نفسها، فكرة تطاردها في خلوتها، وفي صلاتها، ووقت جلوسها، وفي دقائق يومها، تجعلها في توتر وقلق، توجس لا ينفك يشاغلها، فكرة أن ترحل أمها، وتتركها وحيدة، تصرخ: لا أستطيع العيش من دون أمي، أريد أن أرحل معها، فالحياة بعدك يا أماه لا تطاق.
في صبيحة أحد الأيام، استيقظت وردة على صوت أمها، تتألم بشدة، جبينها محمر، والعرق يتساقط، كأوراق الخريف، فأسرعت بها إلى المستشفى، كانت والدتها تحتضر، وهي تنظر إليها في سيارة الإسعاف، تتأوه.. وتتنفس بصعوبة، حدَّقت النظر فيها، كأنها نظرات الوداع، وفور وصولهما إلى المستشفى، تمَّ وضعها في غرفة العناية المركزة، لم تلبث طويلًا حتى فارقت الحياة، سقطت وردة على الأرض، عندما أخبرتها الممرضة بوفاتها، تصرخ بشكل عشوائي، أماه..، أماه لا ترحلي.. من لي غيرك، يا أماه.
تركتها وحيدة حزينة أسيرة الذكريات والفراق، المنزل أصبح خاليًا من صوتها، من طيفها، رائحتها، فكل زاوية فيه، تتحدث عنها، عن الأم الحنونة التي ربت وتعبت، وصبرت طويلًا على المرض حتى فارقت الحياة، كل جدران المنزل صامتة خرساء لا تواسيها.. ليس إلا الحسرة والدموع أنيسها في وحدتها، ما أصعب أن يكون لديك إنسانًا، يكون في عينيك وروحك كل الحياة، وفجأة، تفتقده، لتشعر بأنك فقد الحياة ونضارتها كلها في لحظة ما، لم تكن تنتظرها، إنه صوت الحزن والأسى، دموع الذكريات، اعتزلت الناس، وردة لا تذهب إلى عملها، فقد أخذت إجازة، تغلق على نفسها حجرتها، لا تريد الخروج من المنزل.
بعد ثلاثة أيام، أرادت التواصل مجددًا مع عماد الذي لم يرد على اتصالاتها، أو رسائلها، لتخبره بوفاة والدتها، وبأنها في حاجة ماسة له، ليطبب عليها جراحها، ولكنه لم يرد، أصابها التوجس، رفعت يديها بالدعاء، كي لا يصيبه مكروهًا، وأن يحفظه لها، فليس لها أحد غيره.
تحدَّثت معها صديقتها منال كثيرًا، ولكن لا فائدة، لا ترد على اتصالاتها المتكررة، إنها متكورة على ذاتها، لا تستطيع الكف عن الحزن والبكاء، فرحيل أمها، ووحدتها أعظم ألم في حياتها، لم تستطع التصالح معه، ولا التعود عليه.
في المساء الذي كان متشحًا بالظلمة في المكان، وفي روحها، هاتفتها صديقتها منال، تقدمت باتجاه هاتفها، خطواتها مثقلة، تناولته، وعندما سمعت صوت منال، أخذها البكاء، طلبت منها منال أن تهدأ، تحدثتا طويلًا، وأقنعتها بأن تعيد التواصل مع عماد، وتخبره بخبر رحيل والدتها، فربما لديه ظروفٌ لم يستطع بسببها التواصل معها.. استجابت لها، ووعدتها بأنه سوف تتواصل معه.
قامت بالاتصال به، فردَّ عليها، أخبرته بوفاة والدتها، انتابه الحزن، شعرت من حديثه بأنه ليس مشتاقًا إليها كعادته، كأنما هو متبلد المشاعر، أنهى المكالمة بالاعتذار لها لظرف ما، ووعدها بالاتصال عليها فور الانتهاء من مشاغله.
تسمَّرت وردة في مكانها، تفكر في أسلوب عماد معها، شعرت بشيء يخالج ذاتها، ولكن لا تتجرأ على الإفصاح عنه حتى إلى نفسها.. همست: أيعقل أن يكون..؟!