لا أدري إن كان الأمر مستوعبًا للبعض، وهو: كيف تكون علاقة ابنة بأمها، أعنيها تمامًا، فكل أم علاقتها بابنتها خاصة، لكن علاقة ابنة بأمها أمر مميز؛ لأنها تميل لأكثر ما يكون لرفقة بينهما.. كانت أمي رفيقة لي، كان الأمر أشبه ما يكون بتبادل الأدوار بيننا، فحين انتهى دورها من تربيتي وإعدادي، ابتدأ دوري في رفقتها والاهتمام بها، كل مهامي العاجلة والمهمة تؤجل، لكنها بقيت في قائمة أولوياتي.
كنا نعيش ونصنع خطط الحياة بقوائم النهارات المختلفة التي تجمع بيننا، على طول الوقت أو قصره، كنا نؤثث لوجود بعض الرفاق، بعض المهام، بعض الأحداث الحاصلة، أثرثر كثيرًا لأمي عن مواقف طريفة تحصل معي كحادث ارتطام بباب عرضي، أو شقلبة ما على سلمة مكسورة، أو أحدثها عن طفل غاضب ومعاناة التعامل معه أو كسبه لجهتي، أو أحكي عن تجربتي مع كتاب جديد قرأته مؤخرًا، أو حتى تجاوز شخص ما لي بسرعة جنونية كادت تفقدني سيطرتي على الأمور، و أشخاص أقابلهم كل يوم ربما لا أذكرهم لاحقًا. فأحاول استثارة ذاكرتها التي بدأت تضمر حزنًا.
أحدثها عن أشخاص لطفاء ألتقيهم صدفة أو أشخاص بغضاء يثيرون الضجيج في رأسي بصورة مستفزة، فتضحك أمي مهونة الأمر علي، تضحك ببساطتها العفوية فاتبسم أنا العافية مع ضحكاتها. ومؤخرًا كنت أتعمد قص القصص عليها، وكانت تستمع لي دون تعليق، ففي الآونة الأخيرة انسحبت مع مرضها لجهة الصمت، الصمت الذي يترك أثره عميقًا في ذاكرة الكبار وشعورهم بالهزيمة من الحياة، لكني أعرف أنها تصغي لي جيدًا، وأحسب هذا من نظرات عينيها تجاهي، من ضغطة يديها على يدي وعدم رغبتها بإفلاتي منهما وكأنها تستشعر الدفء والأمان بوجودي حولها.
تعرف أمي كل الذين يمرون بعالمي اسمًا اسمًا، وتعرف رفيقاتي جميعًا، من حضر منهم ومن انسحب من عالمي بسبب أو من دون سبب، تعرف حجم قلقي وحجم آمالي، شهدت خيباتي كلها، وشاركتني انتصاراتي المزهوة وفرح تحقيقها، وكانت تدعو لي، تدعو أمي كثيرًا فأشعر أن أبواب السماء مفتحة، بل أكاد أجزم أنها تنبسط لي بحظ وافر فأفوز بحظوته بفضل دعواتها.
كان علي دومًا وأنا أحدثها أن أمسح ضباب الأسئلة في داخلها، فأزيل قلقها علي حين أغيب، وأكرر عليها الأسماء والأحداث وأربطها بهم، أبلغها التحايا التي ينقلها لها بعض الرفاق حتى تنصهر في عالمنا، فرغم ترنح ذاكرتها مؤخرًا إلا أنها تبقى حاضرة الذهن متقدة كلما تحدثت لها بصوتي. صارت بعض كلماتي مصدر عافية لها ومثار اهتمام لذهنها، أعرف أن أمي تتحلق حول حديثي وإن لم تبادلني حرفًا واحدًا فيه، فقد كانت الصورة للمشهد ثابتة وحاضرة في أذهاننا وغير قابلة للتغيير.
ولهذا أيضًا كان لزامًا عليًّ أن أصلح مواضع قلقها وأرتب بعض مخاوفها المستترة، كأن أمسك بيديها الاثنتين فأتامل شظايا العمر فيهما – والذي انفلت منها سريعا – وأراقب قلقلها الشارد لجهة الظل، كفتاة ضلت طريقها في الحياة، فلا هي تقدمت خطوة بمركب العمر ولا هي عادت لطفولتها الفارة منها بقسوة الحياة وشظف العيش فيها، وكأن الزمان توقف بها عند هذه المحطة الصعبة دون أن يمنحها تذكرة للعودة ناحيته.
وأنظر لهذا الوجه الحنون الذي أعرفه جيدًا والذي اشتققت منه قسمات وجهي، وأتامل كيف تقفز النظرات من عينيها وهي تبحث عن وجهتها ناحيتنا، فأحتضنها بقلبي وأنا أؤكد لها كل مرة في ختام حديثي معها بأني لا زلت أحبها، حتى وإن كانت هي لا يمكنها أن تجيبني سوى بالصمت، وأعود أستجمع اللحظات العابرة لحديث مستفيض جمع بيننا، لكنه كان ودودًا جدًّا ليشكل قيمة رسوخ حقيقي في حياتي وعامودًا أتعلق بأساسياته.. لعله كل ما أمتلكه الٱن، بل هو من أجمل رصيد الذكريات التي ظفرت بها معها.
لم أشعر يومًا أني وحيدة في الحياة، رغم كل ما يحيط بي من عائلة ومسؤليات وعمل وأصدقاء وكتب وقضايا كثيرة تشغل جل وقتي، وعندما كانت أمي على قيد الحياة، لم أشعر بهذا، ولا حتى بهزيمة الوقت تعبرني ولا أن الحزن يستوحش بي، حتى مع انهزام صحتها وتراجعها عني في مرضها مؤخرًا ولا بارتداداته علينا ولا في غيابها عنا فيه.
أما الٱن وقد رحلت أمي عنا من قريب، فإني أشعر مع كل هذا الضجيج حولي بقسوة الوحدة .. الوحدة القاتلة التي يخلفها غياب الأم في حياة أبنائها، خاصة إن كانت تشكل هي قبلتهم وكعبتهم وحجهم اليومي تجاهها.