واسأل قلبي عنك.. “١”

جاءت وردة إلى الكوفي شُوب الواقع في امتداد شارع منزلهم، مُرتدية الجاكيت الأحمر، وتضع نظارتها الطبية، لم تطلب قهوة كعادتها، جلست تنتظره، خطيبها الذي أبصرت في عينيه الحياة، الدقائق مُفعمة بالشَّوق، كانت كلماته، ترتعش بين شفتيه، يُخبرها برغبته في اللّقاء، ليُخبرها بأمر لا تتوقعه، ولم يخطر في فكرها.

كان القلق باديًا على وجنتيها الحمراوتين خجلًا، بكونها لم تعتد الجُلوس في هذه الأماكن.

رمقته بطرف عينيها، الآن خُطواته تُعانق بهو الكوفي.

عماد طويل القامة، أسمر البشرة، ذُو عينين واسعتين، أسود الشَّعر، كُل من يراه يتوسم فيه “الإتيكيت”، لشدّة اهتمامه بمظهره.

اتخذ مقعده بجانبها، حدّقا في بعضهما، بُرهة من الصّمت، تجتاح الوقت، تملأ المكان عفوية، كأنّها غفوة العشق، تُداهم العاشق بلا موعد، أو رغبة.

قطع الصّمت، الذي جعل القهوة تتجمد فيها الرغوة تميل على قلب وردة المُرتعش من تسارع نبضاته.

وهي تتأمل ملامحه، حدثها: سأخبرك شيئًا، ولكن كُلي رجاء، أن تفهمي الموقف، انقبض قلبها، اغرورقت عينها كأنّ الدموع لم تكن إلا ارتجاف تفاصيلها، فما أقسى أن تبكي ولا أثر للدموع على خديك.

عانق بأصابعه يديها، وأسدل رمشيه: لقد حصلت على بعثة إلى أمريكا ماجستير إدارة أعمال، وسوف أسافر يوم الخميس المقبل.

اختنقت بعبرتها، كالإسفنجة، لا تلوي إلى شيء سوى الصّمت، لتنتفض فجأة: ماذا تقُول؟!

شدّ يديها ناحيته، وطلب منها أن يتزوجا زواجًا يقتصر على العائلة، ويذهبا معًا إلى أمريكا، لتُكمل هي دراستها هناك.

صرخت في وجهه: هذا مُستحيل؟! كيف لامرأة، أن تتزوج بعد ثلاثة أيام، وأنت تعلم أن أمي تُعاني من مرض السرطان، ولها جلسات علاجية، لا، هذا مُستحيل لا أستطيع ترك أمي، تُلاقي مصيرها وحيدة، لا يوجد من يهتم بها سواي، أنت تطلب المُستحيل.

وقفت مُثقلة بالألم، وتوجهت إلى خارج الكوفي شوب، يُنادي عليها، فلا ترد جوابًا، الآن تُسابق قدميها المسافات، وتُخفي دموعها بمنديل، لا تعلم أكان مُبللًا من عينيها، أم من قطرات المطر المُتسارعة، كأنّ الغيمات، تُواسيها.

وصلت وردة إلى منزلها، وهي تجهش بالبكاء، الحيرة تأكلها، كأنها قطعة لم يكتمل أوان نضُوجها، ماذا تصنع؟! وكيف تتخذ قرارًا مصيريًا، مثل هذا؟ تُحدث ذاتها بتوجس: هل من الصواب ترك أمي الوحيدة التي ربتني واعتنت بي، وتحملت المصاعب والآلام من أجل زواجي، لأقدم رغبتي بشكل أناني، وأذهب مع زوجي إلى أمريكا، هكذا تمتمت وردة في نفسها، وهي تقبض على شيء في يدها بقوة، يبد أنه هاتفها المحمول، صرخت بألم: لا يستطيع قلبي، أبدًا، لا يطاوعني على القيام بهذا الفعل، لا غير ممكن، كيف أترك ملكة الكفاح والصبر في أشد لحظاتها كي أحقق رغبتي، يا لدفء روحها، وابتسامتها، وقلبها الطيب الحنون، الذي تربيت في ظله، فهل يكون الجزاء بالهجران، في الوقت الذي تكون فيه محتاجة لي أكثر من أي وقت؟!

عندما وصلت المنزل، كانت أمها نائمة، ولم ترد إزعاجها، اتصلت على صديقتها منال؛ كي تشكو لها حيرتها وتستشيرها؛ ماذا تفعل في هذالأمر!

تحدثت مع منال، وأخبرتها صديقتها أن القرار يعود إليها، ولابد أن تمعن التفكير مليًا، فإنه مستقبلها، وأن تدرس الأمر من مختلف الجوانب، ولا تترك عاطفتها تغلب على عقلها، أصغت لها، فقامت بالتفكير، وأخذت وقتها، فاستقرت على قرار بأن تبقى بجانب أمها، وتترك خطيبها يسافر وحده، ويعمل ما يريد، فلن تمانع رغبته.

هاتفها عماد في صبيحة يوم الأحد، وأخبرته بأنها تريد محادثته عصر هذا اليوم بالكوفي شوب القريب من منزلهم.

تهللت أسارير خطيبها عماد، الذي لطالما عرف عن عقلانية وردة، وأنها تزن الأمور ولن تتركه وحده.

في عصر اليوم، ذهبت وردة إلى الكوفي شوب، وهي تنتظر عماد بفارغ الصبر، والقلق والتوتر على وجنتيها.

جاء عماد أخيرً، وهو يرتدي بدلة أنيقة رسمية، وبيده بوكيه ورد أحمر صارخ، يوحي بالحب، كقبلة.

كانت تعابير الحزن والأسى، ترتسم على تفاصيل وجهها، فهي تصارع نفسها من أجل أمها، فإنها تريد الذهاب مع عماد، وتريد البقاء مع أمها.

أحس عماد بأن هناك ثمّٓة أمر ما، قد ألبسها فستان الهم، فوجه وردة يتكلم.

بادرها عماد: ما هي الأخبار؟

ردت: بخير، تطمن يا عماد ولا أستطيع الذهاب معك، أنت تعرف جيدًا منزلتك لدي، وكيف خططنا لحياتنا، واخترنا مكان عشنا الزوجي، حتى أسماء أولادنا والأماكن التي سنسافر لها، وتعرف أني لا أستطيع ترك أمي المريضة، فهي من ربتني وتعبت، لولا الله، ثم لولاها لم أصل إلى ما وصلت إليه، هذا قراري الذي اتخذته بعد تفكير عميق، أعتذر لك جدًا، كلي رجاء أن تتفهم موقفي.

رد عماد مذهولًا، صامتًا إلا من بعض الحروف: حسنًا!

جاء وقت السفر، توجه عماد إلى المطار، صعد الطيارة، حلقت في السماء، ابتعدت عن المدينة، سافر عماد، ولكن قلبه تركه مع وردة، ولم تسافر وردة، ولكن قلبها، كان مع عماد.



error: المحتوي محمي