احتضن ديوان “ضفاف أخرى” للشَّاعر أحمد الرمضان، عضو منتدى سيهات الأدبي بين دفتيه بعض النُّصوص، التي تتمتع بالفُكاهة، وتبعث على الضَّحك الشَّفيف لما تختزله من الموقف الكوميدي، الذي يتزاوج مع الحالة الشِّعرية في تصوير درامي، والتي جاءت تحت عنوان: طرائف وفكاهة.
يأتي الشَّاعر الرمضان، ليُجسد الموقف الكوميدي، ليس مُكتفيًا بالخيال، وخلق حدث درامي، لكنَّه يشدُّ خُطاه باتجاه الحُقول، ليُقدم الفُكاهة في قالب أراد صناعته، فصنعه، فقد اتبع في أبجديته الابتسامة من خلال تصوير الموقف من الواقع، الذي عاشه، أو أبصره، أو تسرب إلى مسامعه، ويدمغه بالأبجدية الشِّعرية، ليكون النَّص، كأنَّما يأتي توثيقًا، لهذا الموقف الفُكاهي.
وهذه لفتة جميلة بكون هذا النَّص، إن جاء من خلال الواقع، فإنَّه سيكون قريبًا من ذات المُتلقي، ليتفاعل معه، ليس تفاعلًا وقتيًا، لكنَّه يعرف طريقه إلى ذاكرته، فيسكنها، فلا يشعر بوجود بُعد زمني أو مكاني، ما بينه وبين هذا الحدث الفُكاهي – وكما هو معرف – بأنَّ الحدث، كلَّما كان قريبًا زمانيًّا ومكانيًّا، فإنَّه لن يكون غريبًا في ذات المُتلقي وبيئته، ليشتدَّ تفاعلًا، مُتناغمًا مع حيثياته، خصوصًا إذا كانت صياغته، تتمتع بنسبة من الإبداع، ينتج عنها كلّ ما أسلفنا ذكره من أثر لهذا التفاعل.
اللُّغة الشِّعرية
إنَّ اللُّغة الشِّعرية، التي تنساب بين أصابع الشَّاعر، تأتي سهلة، خفيفة الظلِّ في سياقها اللُّغوي، فلا تجدها تتوغل في استنزاف المعاني، والإغراق في تراكيبها اللَّفظية.
وهذا يتضح جليًّا في تعاطيه مع الموقف، فإنَّه لا يُبعد تفاعله الذاتي معه، لهذا تجده يجعل من هذه التفاعلات الذاتية الجزء، الذي لا يتجزأ من درامية الموقف، يُشاركه إلى حدًّ، يشعر من خلاله المُتلقي بأنَّ الموقف قد حدث فعلًا له، وليس يُمارس عملية نقله بلغة شعرية.
يقُول في “الباچة والعصيدة”:
كأنَّني الجوال في رقصه/ يهتزُّ بالرسائل العديدة
ما الحل في هذا؟ وذي جُبَّتي/ عليَّ كالسبع على الطريدة
حين سألت صاحبي قال لي/ عليك بالپاجة والعصيدة
هُنا يستحضر الشاعر الأكلة الشَّعبية، الپاجة والعصيدة، كعلاج لهذا الأرق الذي ينتابه، ليهرب من واقع أراده جميلًا، مُنتعشًا بالحالة الترابية الصفاء، ليجد الحَّل الأمثل في الرجوع إلى الماضي، إلى ما توارثته الأجيال من الأكلات الشَّعبية، التي تنم عن الراحة النفسية.
ويقول في “القط المُجرم”، الذي هجم على طائر صديقه المحبوب، وجعله وجبة له:
إنَّي كمثلك يا أخيَّ مُحطم/ للآن من أفعاله أتحلطم
قد كان لي “صوص” يُطيب خاطري/ وبصوته الرقراق كم أترنَّم
لا يأكل الحبات إلا من يدي/ ينام في جنب السرير وينعم
ولطالما يجري إليَّ مرفرفا/ حتى أتى بالسر قط مجرم
لهفي فلم أرَ منه إلا ريشه/ يومًا تركتُ الباب فاحترق الدَّم
إنَّه يمزج الألم في قالب فكاهي، ليجعلنا نعيش الحالتين، تارة نضحك استئناسًا، وفي الأخرى نُقارع الألم، والحسرة على فراق طائر، كان لنا يومًا أنيسًا، ليأخذ من الجملة في حياتنا ظرفها الزماني والمكاني، وهذا النَّص تحديدًا، يأخذني لذاك الطير، الذي كان في حياتي “الكناري الفيفي”، الذي هجم عليه القط، مُتسللًا من النَّافذة ليلًا، ليكون فريسته، ولم يبقِ منه إلا ريشه.
هُنا أخذني الشَّاعر الرمضان، لتلك الحادثة، كأنًّه كان بالقُرب، ليعرف تفاصيلها، أو أجده، كفنان، يُتقن عناق الألوان في لوحته، لتُبحر ريشته من اللا شيء، لتكون لوحته كلَّ الأشياء، لقد استرجعتها الذكريات، لأتألم حقيقة في استرجاعها، فقد كان هذا الطائر الجميل، له من القُرب في ذاتي الشيء الكثير.
نحن نتألم للفقد، فإنَّ الفقد مُؤلم، وإن كان طيرًا.
يقُول في “من هو المجرم”:
فجأة أوقف عقلي طبق/ لبريق منه إحساسي اعتمى
إذ بها حسناء طابت ريحها/ رفع الـ”قصدير” منها مُرغما
فتمنعت ولكن راغبًا/ من رأى ممتنعًا مُبتسمًا؟
وأنا رُغم “رجيمي” أرتمي/ مثل صخر وعلى الأرض ارتمى
وأقام البطن منها عُرسه/ وأقام الصحن فيها مأتما
لا تلوموني فهذا صاحبي/ بجمال الروح أضحى مُلهما
هل هو الجاني أم الجاني أنا؟/ أم تُرى أضحى كلانا مُجرما
يُصور الشَّاعر حالته، حيث أعلن التصالح مع نفسه، ليقوم بعمل “رجيم”، ولكن المُغريات، كعادتها تجعل من التنزهات العقلية، تأخذ طريقها إلى الاستجمام على كرسي بجانب زُرقة البحر، لم يستطع الصبر، فكيف يصبر والقصدير، يُراقص ما احتواه برائحة، تُدغدغ اشتهاء البطن إلى تقبيله في رغوة اشتهاء اللَّمس، هذا التصوير الدقيق، وفي ذات اللَّحظة البسيط، يُجسد الحدث الفُكاهي بدرجة رفيعة من الوضوح، لتكون الصورة بين عينيّ المُتلقي، كمشهد كوميدي، يقوم الآن بمُشاهدته على الشاشة الفضية.
وفي ختام الابتسامة، وبداية الابتسام، من النَّص الفُكاهي إلى فكاهية النَّص، فإنَّنا نحتاج حقيقة إلى نصوص لها طابع الفكاهية البعيدة عن السُّخرية، والتي تبعث على الراحة، وتمنح الدِّفء، وتُنعش القلب والخاطر، وتُوثق المواقف؛ لتأتي شاهدًا في المُستقبل البعيد، ولتكون مُؤشرًا على طبيعة الحياة الاجتماعية في حقبة زمنية، لها دلالتها الثَّقافية والاجتماعية، ونوع اللُّغة والطرح الشِّعري فيها.
أليس القارئ عندما يقرأ عن الجاحظ أو بعض الشَّعراء في العصر الجاهلي وغيره من العصور، فإنَّه من خلال القصيدة الشِّعرية، يتعرف على طبيعة تلك المُجتمعات، والشِّعر الفُكاهي أحد هذه الأساليب الشِّعرية، التي يُستفاد منها في دراستها، لتستحضر الفترة، التي كانت فيها.
من خلال قصائد الطرافة والفُكاهة، فإنَّنا نقوم بما يُسمى “العلاج بالضحك”، لما له من الأثر القريب، والآن ونظرًا لهذا التطور التكنولوجي، فإنَّ الكثير، يتجه إلى قناة التواصل الاجتماعي “السناب”، وغيره، ويبحثون في زواياها عن الابتسامة والضحك، فهل نُعيد إلى القصيدة رونقها وروعتها من خلال جعل القصيدة الفُكاهية حاضرة في المشهد الأدبي؟!
سُؤال، يبحث عن الإجابة.