ورد عن أمير المؤمنين (ع): العدل حياة (غرر الحكم: ١٧٠٤). ما هو المقصود بمفهوم العدل والذي يحقق هذه النتيجة العظيمة، إذ تتبلور تلك الحياة الطيبة التي يحصل عليها من يطبق معالم العدل في تعاملاته وعلاقاته، بينما الظلم والتجاوز على حقوق الآخرين ظلام وحياة مضطربة وتوتر يعيشه على مستوى علاقاته؟
العدالة ملكة في النفس يقدر من خلالها المرء حقوق الآخرين المعنوية والمادية فلا يتجاوزها ولا يتخطاها، فضميره اليقظ لا يمكنه أن يهدأ يومًا لو تجاوز على غيره، فالعدل شعور وجداني ووعي عقلي بأهمية العدالة في حياتنا وإدراك لبشاعة الجور والعدوان على الغير، والعدل حياة للنفس في الدنيا والآخرة وينال صاحبها طمأنينة النفس وهدوءها ويرضي ربه ويؤسس لمقر أخروي يهنأ فيه، وبلا شك فإن الإنسان الساعي إلى تكامل نفسه بالفضيلة والأخلاق الحسنة يدرك أهمية العدل ووجوب الالتزام به على طوال الخط في علاقاتنا.
ومن آثاره الاجتماعية هو نيل المحبوبية والجاذبية في النفوس؛ إذ الإنسان مجبول على احترام وتقدير من يحافظ على حقوقه، وفي المقابل فإن من أسباب انتشار الكراهية والأحقاد بين الناس هو التعامل بقانون الغاب وانتهاز الفرص للانقضاض على حقوق الضعفاء.
الخطوة الأولى في قانون العدالة هي إجراؤها مع النفس من خلال الحفاظ عليها من الوقوع في الندم والخسارة، فالعدل مع النفس يتمثل بالسعي المستمر لاكتسابها معالم الفضيلة وتجنب إلحاق النقائص والعيوب بها، وتحفظ العدالة صاحبها من الوقوع في موضع السخط الإلهي بارتكاب المعاصي والآثام، فمن انغمس في الشهوات والأهواء هانت نفسه وأسقطها في أقذر المواضع، كما أن المحافظة على النفس من لحوق الخسارة بها هو مقتضى العدل معها، فكيف بمن يعرض نفسه للعقوبة الإلهية وغضب الجبار بما لا يقوى على شيء منه مطلقًا، فالنفس أمانة عند صاحبها لا ينبغي له التفريط فيها وتضييعها، وأي تضييع أكثر من إقحامها في مواطن الرذيلة وسقوطها في وحل السيئات؟!
إذا تصورنا ميزان الأعمال في يوم القيامة إذا نصبت محكمة العدالة الإلهية، وتقدم الظالم لنفسه والغاش لها والمفرط في حقوقها والمتسبب في مخاصمة كثير من الناس لها، بغيبة لهذا وهتك أستار ذاك وإهمال لإتيان الأعمال الصالحة والشح في ماله وتضييع أوقاته في اللهو، ألن يكون أعظم المعادين لنفسه ولا يكون من الناس طالما له أشد منه لنفسه!
وظلم الإنسان مع نفسه لا يقتصر على الإسراف والانغماس في النزوات والملذات حتى يلقى نتيجة ذلك وهي الندم الشديد، وفي المقابل فإن المسعى في الحياة المتضمن للرؤية الإيجابية والتعامل مع محطات الحياة بثبات واستقامة وصبو هو إحسان للنفس وعدل معها، بينما النظرة السلبية للنفس والسقوط في أتون اليأس بمجرد الوقوع في إحدى حفر الإخفاق والتعثر فهو ظلم للنفس وتضييع لحقوقها، وأما التعلق بالأمل وإنسانيته القوية وقدراته على النهوض مجددًا فهو الرجوع إلى خط العدالة، فعلى مستوى علاقته بربه فليلجأ لكهف التوبة الحصين ويجدد العهد بعلاقته بربه، وعلى مستوى علاقاته فالتسامح والاعتذار توقف عن الهدر، وعلى مستوى أهدافه فالاتزان النفسي والوجداني يساعده على مواجهة التحديات، فالعدل مع النفس هو صيانة حقوقها على جميع المستويات والاتجاهات.
والعدل على مستوى علاقات الإنسان الأسرية والاجتماعية والحفاظ على حقوق من حوله يضمنه الميزان المستشعر لأي تجاوز من خلال ضميره اليقظ، فكل كلمة أو تصرف يأباه لنفسه ويغتاظ من توجيهه له فليكف نفسه عن التعامل به مع الغير، إنها معادلة بسيطة لا تحتاج لكثير من المبررات والمراوغات والالتفافات بل هي بينة ناصعة وطريق قويم يسلكه كل من يمتلك حسًا ومعيارًا يطبقه على غيره كما يطبقه على نفسه، والعدل لا يقتصر على الجانب الحسي بالتجاوز بإحدى الجوارح على الغير في نفسه أو متعلقاته، بل يشمل الجانب المعنوي من خلال اختراق النظام الأخلاقي بمحاولة الإساءة للغير والانتقاص منه وتجاهل وجوده، وهذا الجانب دقيق ويحتاج إلى مزيد عناية واهتمام، إذ البعض لا يلتفت إلى أضرار أصدقاء السوء الذين يعدون له جلسات نهش لحوم الآخرين، أو أنه يقع تحت قبضة انفعاله ومزاجيته فينطلق لسانه ويده ليعتدي على الغير، وكم من أناس يعانون من العنف اللفظي من رب أسرتهم أو أحد أصدقائهم والمقربين لهم بدعوى الميانة وسقوط الحقوق!