ما زلت أتذكر ذلك المساء في جنادرية ١٩٨٧م حين علمت لتوي عن وجود المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري في فندق قصر الرياض، فطفقت أبحث عنه، وسط عدد من أبرز مفكري العرب وأدبائهم وشعرائهم، وهم يتناولون طعام العشاء في مطعم الفندق.
توقعته ذا وجه (متفلسف) متجهم! كما بدا – بعد ذلك – المتفلسف المصري د. عبد الرحمن بدوي، وأنا أحاوره في فندق جورج سانك بباريس في صيف ١٩٩3م.
حين وقفت أمام الجابري وهو وحده يتعشى، حييته معرفًا باسمي، فحياني بأحسن تحية، طالبًا بدماثة خلقه ورقة طبعه أن نلتقي، بعد أن ينتهي من تناول طعامه.
كان كتابه ” تكوين العقل العربي ” الصادر سنة ١٩٨٤م قد ترك في نفوسنا وقعًا ساحرًا، بغزارة معلوماته، وبيان لغته الآسرة، ومنهجه التحليلي الجديد، الذي استبان بعد ذلك بمعالجته (الأبستمولوجية) في كتابه (بنية العقل العربي) الصادر سنة ١٩٨٦م مما جعله نجم مسامرات النقاش المختلفة في أماسي بيوت الأصدقاء في الرياض.
في العام الذي تلى لقاءاتنا المتعددة هذه، أدرت ندوة شارك فيها الدكاترة الأعلام، شوقي ضيف وحسن ظاظا (مصر) وعبدالله الطيب (السودان) وعبدالرحمن الطيب الأنصاري (السعودية)٠٠ أما الندوة الإشكالية المتلاطمة! فكانت بعنوان (هل العقل العربي في أزمة؟) التي استفزت مشاركة د. محمد عابد الجابري، المد الصحوي الطاغي – وقتذاك – رغم مشاركة الأكاديمي السوداني الإخواني د. جعفر شيخ إدريس أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، إلى جانب د. حمد المرزوقي أستاذ علم النفس بجامعة أم القرى٠٠ وكان مدعوًا إليها المفكر المصري د. فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة بجامعة الكويت، الذي أبدى لي موافقته للمشاركة في الندوة، إلا ان أحدًا إعتاق طريقه إلى الرياض!
وقد بلغ من استثارة وجود الجابري على المنصة، أن حاول أحد أساتذة الإعلام (الإسلامي) بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية من السعوديين، اختراق (بروتوكول) الندوة بانتزاع (ميكروفون) المداخلة قسرًا! قبل فتح باب النقاش أمام جمهور القاعة، لتنتهي الندوة بتهديدي إذا ما استمرت فعاليتها، والاعتداء بالضرب على د. متروك الفالح أستاذ علم السياسة بجامعة الملك سعود! رغم التزامه الصمت طوال وقت الندوة.
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
كان الجابري بتفكيكه سلطة النص المحافظ، ونقده هيمنة التراث الفكري على العقل العربي طوال قرون، سببًا في إخضاع التراث العربي الإسلامي إلى جهازه المفاهيمي، وهو يدعو للتحرر العقلي ب “تدوين (خطاب) عربي جديد” في التداول الفكري (يجِبُّ) التدوين القديم بين منتصف القرن الثاني ومنتصف القرن الثالث الهجريين، متوسلًا في ذلك مناهج المفكرين الفرنسيين.. لالاندالعقلاني المجدد بمعجمه الفلسفي الموسوعي، وألتوسيرالذي درس القطيعة المعرفية بين ديالكتيك هيجل ومادية ماركس التاريخية، وهو ما انعكس لدى د. طيب تيزينيأستاذ الفلسفة بجامعة دمشق في كتابه (مشروع رؤية للفكر العربي في العصر الوسيط) الصادر سنة ١٩٧١م وما تبعه من أجزاء عديدة، ثم عمق أطروحته حسين مروة في كتابه (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) سنة ١٩٧٨م برؤية تحليلية تكاد لا تغادر الخطاب الماركسي، بتحليل التراث وفق مقولة الصراع الطبقي ٠٠ وكان قد سبقهما د. زكي نجيب محمود أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة بكتابيه (تجديد الفكر العربي) و(المعقول واللامعقول في تراثنا العربي) متأثرًا بالفلسفة الوضعية أثناء دراسته البريطانية ، وهو يبحث عن الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي، رغم أنه قدم قبل ذلك دراسة لافتة عن (جابر بن حيان) سنة 1961م.
غير أن الجابري سجل مرافعته ضد جملة هذه المشروعات في كتابه (نحن والتراث) سنة ١٩٨٠م وقد أصدر د. صادق جلال العظم أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق سنة ١٩٦٩م كتابه (نقد الفكر الديني) على وقع هزيمة ٦٧ المدوية، التي بعثت سؤال الهوية لدى المفكرين العرب، فلم ير الجابري في جملة مشروعاتهم سوى قراءات سلفية، استوى فيها اليميني والليبرالي والماركسي حيث لم تنتج إلا أيديولوجيا ٠٠ من هنا تكمن (لا تاريخيتها) وهي تستعيد سؤال شكيب أرسلان (المُتَردِّم) دون إجابة منذ سنة ١٩٣٨م في كتابه (لماذا تقدم الغرب وتخلف غيرهم)؟!
كان جواب الجابري في الربع الأخير من القرن العشرين، هو نقد الإنتاج النظري، فهو وحده ما سوف يحقق على (يديه) القراءة العلمية الواعية ب “أحداث” القطيعة الأبستمولوجية التامة مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط، وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث، حيث ما يزال التراث يعشعش بعناكبه في عقول مجتمعاته، كما كان الظلام الكنسي يعشعش بعناكبه في عقول المجتمعات الاوروبية، فانبرى إيمانويل كانت يكتسحه بمشروعه العقلاني التنويري!
كان الجابري قد مهد لكتابه في (نقد العقل العربي) بكتابه (الخطاب العربي المعاصر) سنة ١٩٨٣م وفق القطيعة المعرفية لدى باشلار، التي أثراها محمد وقيدي أستاذ الفلسفة بجامعة الملك محمد الخامس في دراسته اللافتة عن (فلسفة المعرفة عند غاستون باشلار) سنة ١٩٨٠م متجاوزًا فلسفة العلوم إلى خطاب أبستمولوجي، معارضًا الفلسفات التقليدية (بدأ الجابري تجربته التأليفية وهو أستاذ جامعي بكتابه “مدخل إلى فلسفة العلوم“ بجزئيه سنة ١٩٧٦ م) مستفيدًا في تحليل النظام المعرفي في مشروعه بما ورد في كتابه (الكلمات والأشياء) لميشيل فوكو في تحليل الأنظمة المعرفية، كاشفًا عن (اللا مفكر فيه) من (لا وعي) فرويد في تحليله النفسي ٠٠ ماسكًا بمفاتيح مشروعه في تحليل العقل العربي في (البيان والعرفان والبرهان) من أحمد أمين في دراسة التاريخ الثقافي العربي الإسلامي، التي بدأها سنة ١٩٣٨م في ” فجر الإسلام ” ثم ” ضحى الإسلام ” ف“ظهر الإسلام ” لتنتهي ب “يوم الإسلام” دون أن يذكر الجابري في هذا كله إحالاته المرجعية !!! وهو ما تطارحته وإياه في مقابلتي التلفازية السجالية معه في برنامجي (ستون دقيقة) في أحد أيام شهر فبراير ٢٠٠٩م وسبقْتُ ذلك بمقال في جريدة الرياض سنة ١٩٩٥م حثثت فيه جورج طرابيشي على مواصلة نقده لمشروع الجابري، وقد تحولإعجاب الأول بفكر الثاني الذي (يثير ويغير) إلى نقد متواصل ٠٠ تقول هنرييت عبودي زوجة طرابيشي في كتابها عنه الصادر سنة ٢٠٢٠م إن زوجها حينما (غادر بيروت سنة ١٩٨٤م أخذ معه كتاب “نقد العقل العربي” وقد واظب على قراءته طوال الرحلة بالطائرة قائلًا: إنه عمل عظيم رائع وهائل وحينما علم بمقدم الجابري إلى باريس دعاه إلى العشاء ولكن هذا الإعجاب لم يدم طويلًا إذ بدأ جورج يكتشف أخطاء وتفسيرات مغلوطة في كتابه) فانتهى بالرد على الجابري بكتابه ذي الأربعة أجزاء في (نقد نقد العقل العربي).
حينما تطارحت والجابري إشكالات طرابيشي على مشروعه، وجدته يغمغم ولا يبين، متسائلًا: لماذا تحول الإعجاب المفرط إلى النقد المتواصل؟! فكان جوابه في مقابلتي التلفازية: (عقدت ندوة في دمشق حول كتابي “نقد العقل العربي” بإطراء الحاضرين بما فيهم طرابيشي ٠٠ وحين أعلنت أنني أؤلف كتاب “بنية العقل العربي” أراد طرابيشي أن يستبق بحسن نية ولا أظن شيئًا غير هذا متنبئًا –أي طرابيشي– بما سأقوله في الكتاب القادم بناءً على ما ورد في كتاب “تكوين العقل العربي” فقلت له: كيف تسمح لنفسك أن تتوقع ما سأقوله فيه فأنت –يقصد طرابيشي– ما فهمت هذا ولا فهمت ذاك..انفعلت ولم أقصد شيئًا آخر فهذه من طبيعتي وأكثر الطلبة يعرفون فيّ هذا أثناء مناقشتي أطروحات الدكتوراه عندما أكون في لجنة المناقشة عادة ما أنفعل وربما يعلو صوتي لا أقصد بهذا أحد لكن هي هكذا طبيعتي) !!!
كان جواب الجابري مهلهلًا، ويفتقر إلى المنطق، بل إنه بهذا كان يناقض ما دعا إليه في أحد كتبه المبكرة، بضرورة اختراق اللغة والمنطق ب “الحدس” فهو وحده الذي يجعل الذات القارئة (جورج طرابيشي) تعانق الذات المقروءة (الجابري) إذ تعيش في إشكالاتها باستشراف ما ستقول.
يقول طرابيشي في كتابه “مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة ” سنة ١٩٩٣م:
(ما الذي يسكت عنه نص الجابري المطول في عصر التدوين، إنه مرةً أخرى يسكت عن المصدر الذي أخذ منه الفكرة والتسمية – يقصد أخذ الجابري مفاتيح كتابه ” بنية العقل العربي ” في تحليل الأنظمة المعرفية وتسميتها “البيان والعرفان والبرهان” من موسوعة أحمد آمين مؤكدًا – طرابيشي –أنه لا يجوز أن يعاد تجليد المجلد أو يعاد نسخه مرتين لاسيما والدراسات المتراكمة خلال النصف الثاني من القرن العشرين قد أبطلت أسطورة عصر التدوين من أساسها).
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
استلهم الجابري فكرة (الكتلة التاريخية) من المفكر الايطالي العضوي غرامشي، ذاكرًا ذلك حين دعا في عدد نوفمبر ١٩٨٢م من مجلة المستقبل العربي، مقاربًا حال الأمة العربية في تمزقها، بما كانت عليه إيطاليا في بداية القرن العشرين من تفاوت بين شمالها وجنوبها، وأن الكتلة التاريخية العربية هي البديل الاستراتيجي لحالة الإقصاء والتهميش ٠٠ غير أن هدا التهميش هو ما يهمن على فكر الجابري، وهو يختزل التراث العربي في ثلاثيته(البيان ونموذجه الجاحظ، والعرفان ونموذجه جابر بن حيان وابن سينا، والبرهان ونموذجه ابن رشد) ٠٠ فإذا بثنائية الظاهر والباطن الكامنة في (تهرمس) مذهب جابر بن حيان، حسب مقولة ماسينيون المهتم بالفكر الباطني – والصوفي الحلاجي خاصة – خالطًا بين الشيعة الإمامية والإسماعيلية والمتصوفة بضربة يد واحدة! وقد استقاها منه هنري كوربان في أحد كتبه الأولى (تاريخ الفلسفة الإسلامية) فإذا بالعقل المشرقي المتجسد في ابن سينا رائد علم الطب التاريخي عالميًا، هو المسئول – في نظر الجابري – عن انحطاط العقل العربي! وأن جابر بن حيان رائد علم الكيمياء التاريخي عالميًا، هو –في نظره– من أسس للتصوف ودمر الحضارة العربية ببذره الغنوصية في تربة العالم العربي!
أنا هنا لا أريد الاستفاضة في ما كتبه علماء أوربيون، منهم من كان متحاملًا على جابر بن حيان، فهذا هو الكيميائي البريطاني (هولبارد) سنة ١٩٢٣م يؤكد على استحقاق جابر لقب مؤسس علم الكيمياء، معادلًا أرسطو في علم المنطق ٠٠ أما ما قاله مؤرخو العلوم عن مكانة ابن سينا وكتابه (القانون في الطب) المتداول في الجامعات العالمية فهو ثابت ومعروف.
لكن لماذا اهتمام الجابري المفاجئ بابن رشد رائد علم الفقه المقارن، ومترجم التراث الأرسطي والأفلاطوني ٠٠هل هو إعادة تمركز ذاتي حول مغرب متفوق ببرهانه، على عقل مشرقي بياني وعرفاني؟!
أم هي محاولة تماهي بدور ابن رشد، بحيث يتبدى الجابري في عصرنا العربي ابن رشد آخر؟! رغم أن من اهتم ب “المتن الرشدي” وتخصص فيه منقبًا وباحثًا هو جمال الدين العلوي، الذي جمع شتات النصوص الرشدية من المكتبات الأوروبية.
أحسب ان للمصدر الفرنسي دومًا دور التنبيه لذهن الجابري.. هذه المرة بما كتبه مؤرخ الأفكار ارنست رينان عن (ابن رشد والرشدية) سنة ١٨٥٢ مثبتًا مكانة فيلسوف قرطبة العربي المسلم في الأكاديميات الأوروبية، وقد استوى مؤسسًا لعصر التنوير في بداية نهضة مجتمعاتها، مؤثرًا على الفلسفة اللاتينية والعبرية (عبر تلميذه موسى بن ميمون) بوصفه الشارخ الأكبر لأرسطو.
هذا ٠٠ وتبقى مشكلة عدم ذكر الإحالات إلى مصادرها، في مشروع الجابري قائمة عند كثير من زملائه وباحثيه، ومنهم د. فهمي جدعان أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي في الجامعة الأردنية، وقد كتبت مقالًا بعنوان (هل سرق الجابري فهمي جدعان) هو ما حثثت فيه جورج طرابيشي على استكمال كتاباته النقدية في أعمال الجابري، وكان قد ضمّن نتائج بحث جدعان عن (المحنة) في مسألة خلق القران عند المعتزلة، التي عارضها الإمام احمد بن حنبلفي كاتبه (مثقفون في الحضارة العربية)، دون ذكر الإحالة! فقد أجابني حين سألته بنفس الغمغمة! “إن المسألة انتهت وأن علاقتنا الشخصية والعائلية” أصبحت على ما يرام!!! وهو نفس ما استمعته من د. عبدالله العروي أستاذ الفلسفة بجامعة الملك محمد الخامس حين قابلته تلفزيونيًا في فيلته بالدار البيضاء صيف ١٩٩٣م. متهمًا الجابري الأخذ من عدته المنهجية في التحليل، مستندًا إلى كتابيه المبكرين (العرب والفكر التاريخي) و(الأيديولوجيا العربية المعاصرة) الصادرين في منتصف السبعينات ٠٠ أن هذا الخلل المنهجي الفاضح، هو ما أكد عليه كذلك د. عبدالإله بلقزيز في كتيب صدر له مؤخرًا من مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان (محمد عابد الجابري ونقد العقل العربي) مؤاخذًا الجابري أخذه الحر المتصرف في الدلالات الأصلية للمفاهيم (المستعارة) من مفكرين غربيين، والإحجام عن التصريح بمصادره.
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
بعد غزو صدام حسين دولة الكويت ١٩٩٠م ما كان أحد يتوقع، أن يقف ناقد العقل العربي، في صف الشعبوية السياسية، التي ركب موجتها – إذ ذاك – كثير من اليساريين والإسلاميين، ومن بينهم محمد عابد الجابري، الذي ربط مناصرته المعارضة الكويتية في استرجاع وطنها المسروق، بوقوفها موقف صدام حسين ضد القيادة الكويتية! وهي في المنفى تعمل على استعادة الكويت.
عبر هذه المغالطة المنطقية، طفق المفكر القومي ينشر فصول كتابه (نقد العقل العربي) في صفحات جريدة حزبه (الاتحاد الاشتراكي) متمحورة حول ثلاثية جديدة (العقيدة والقبيلة والغنيمة) منتقدًا العقل البدوي! القائم على الاستحواذ، متأثرًا بأطروحة المفكر العراقي د. علي الوردي في الدكتوراه حول ابن خلدون التي نالها من جامعة تكساس الأمريكية سنة ١٩٥٠م وقد استقى من مقدمته المركوزة حول صراع البداوة والحضارة، أطروحة الصراع بين الصحراء والنهر، موحيًا للجابري أطروحته عن (فكر ابن خلدون العصبية والدولة) سادًّا قصور الوردي في دراسته عن ابن خلدون.
أتذكر أن الجابري راسلني والكويت محتلة، بأن أعمل على نشر فصول كتابه (نقد العقل السياسي العربي) (البدوي) في جريدة الرياض! متزامنًا مع نشرها في جريدة (الاتحاد الاشتراكي) بوصفه منظر حزب الجريدة السياسي.
بعدها تأبى عليّ إجراء حوار تلفازي معه في برنامجي (هذا هو) بقناة MBC أثناء زيارتي المغرب في صيف ١٩٩٣م إلا أنه لم يتحرر من عرفه (البدوي) وهو المولود في فجيج، بالإصرار على تلبية دعوته لتناول طعام الغداء، مرفوقًا بزوجتي وبنتي وابناي، في فيلته بالحي الفرنسي في الدار البيضاء، امتنانًا منه لاستضافتي إياه في بيتي بالرياض.
ولم يفتأ متواصلًا مع المملكة، التي فتحت له صحيفتها ” الشرق الاوسط ” ومجلتها (المجلة) بابًا واسعًا نشر فيهما الكثير من مقالاته بعد انتهاء حرب الخليج الثانية.
بل ان مركز البحوث الإسلامية التابع لمؤسسة الملك فيصل الخيرية ، دعاه لإلقاء محاضرة عن العولمة، وقد لبيت الدعوة لحضورها ، لا للاستماع للمحاضرة فحسب ، وإنما لتجديد أواصر صداقة تقادم عهدها ٠٠ بعدما قارب الجابري على الانتهاء أشار بيده علي بالبقاء دون مغادرة القاعة ، فأخذته في جولة الى شوارع الرياض ، متحاورًا معه حول قضايا الساعة ، فتحدث معي حول المستجدات في مجتمعه السياسي المغربي، وكذلك عن الانتفاضة الفلسطينية الثانية ، وكانت في اوجها ، وقد بدا النظام الاقليمي العربي متعثر الخطوات، إثر تداعيات حرب الخليج الثانية، مثقلًا باستحقاقات مجتمعاته المستفيقةعلى وقع العولمة المدوي.
كان الجابري قد انتهى من رباعيته في نقد العقل العربي ٠٠ أدعه يكمل الحديث كما جاء في مقدمة كتابه (مدخل إلى فهم القرآن الكريم) صفحة ١٤ الصادر في أكتوبر سنة ٢٠٠٦م من مركز دراسات الوحدة العربية:
(انتهيت من العقل الأخلاقي العربي ٢٠٠١م وأنا في شبه نشوة مثل تلك التي تنتاب المتجول في غابة عند بلوغه مخرجًا من مخارجها! غير أني أخذت أفرك عيني على ضوء الفضاء – الفراغ المحيط بالقاعة إذا ببعض الأصدقاء يمطرونني بأسئلة من نوع وماذا بعد؟ بعضهم أجاب بنفسه فاقترح كتابًا في (الجمال في الفكر العربي) باعتبار اتصال الموضوع بالأخلاق، فكلاهما بحث في القيم وبعضهم اقترح كتابًا في (الفكر العلمي عند العرب) بعد أن تناولت الفكر النحوي والفقهي والبلاغي والسياسي والأخلاقي في الأجزاء السابقة.
وفي نفس الفترة التي اقترحت علي هذه الموضوعات أو قبلها بقليل، اقترح علي صديق من السعودية، ونحن على سيارته متجهين إلى عزيمة عشاء في منزل صديق مشترك بالرياض فاقترح قائلًا: لماذا لا يكون الكتاب القادم عن القرآن).
كان هذا ثمرة حوار جولتي مع أستاذنا الجابري بسيارتي في شوارع الرياض مساء يوم الثلاثاء ٢٤ أكتوبر ٢٠٠٠موقد أفصح عن ما ذكره مرة في مقابلتي التلفازية معه، وأخرى في محاضرته المسائية بمعرض الرياض الدولي للكتاب في أحد أماسي شهر ربيع الاول ١٤٣٠هـ – فبراير ٢٠٠٩م بأنني من كان وراء خوض تجربته الفكرية ٠٠ بل قل الروحية في دراسة القرآن الكريم بأجزائه الأربعة، التي استثارت جدلًا واسعًا داخل المغرب وخارجه، يكاد لا يتوقف إلى اليوم حول الإشكالات التي وقع فيها!
المصدر: الشرق الأوسط