الفنان محمد الحمران .. حلم لم يكتمل

أي حلم راودك، أيها الفنان المحب، وأي طيوف طافت بخيالك أيها الحالم، منذ الطفولة طاردتك الأحلام، فأمسكت بالأقلام الخشبية، رسمت على الدفاتر والكتب المدرسية، وأشعلت كراسات الرسم تلوينًا، وأشبعت الكرتونات أشكالًا وخرائط مدن وبلدان نائية.

جغرافيا الأرض أصبحت ذلولًا، مقصدًا لرؤياك، في البدء أسكنتها مناظر طبيعية على الألواح، حين تجاوزت عهد الصبا أخبرتنا فرشاتك بنداوة الألوان الزيتية، لموضوعات من وحي البيئة، البلتة في يديك لم تزل في طورها التحضيري قلبت بها وشوشات الخوص عند صانع السلال المتجلي بحرفية الإتقان، هو جدك من أمك (حجي علي آل صباخ) الذي يحيل السعف والأسل والقصب لأشكال نفعية فنية، وثقته بعاطفة على لوحة لم تكتمل.

ثم تنقلت لرصد ملامح كبار السن الذي أخذتهم الحياة في آتون مفترق الزمن، واقتنصت آهات وتجاعيد وجوه من رحلوا، بقي للناظرين عمل واحد لرجل وقور طاعن في السن يتلو ما تيسر من الذكر الحكيم.

وبكل الشوق نصبت الحامل “لستاند” ووقفت أمام ساحل دارين رسم مباشر بجوار “قلعة جبلة” التابعة لقصر محمد عبد الوهاب الفيحاني، اصطدت سفن عابرة وأخرى جاثية مع بقايا نخيل استأنستهم زمنًا في لواحتك الفتية.

سعدت بما أنجزت تحت إعجاب العيون، لكنك غادرت سبل المحاكاة الواقعية بعد مراجعة ذاتية، وبتأثير كبير وعميق من رفيق دربك، الذي أخذ بيديك لمختلف الأمكنة وأنت تنادي عليه بملء القلب خير جليس في الزمان زمان.

رفقة درب وعشرة عمر أكسبك معرفة فنية وسبل للشقاوة والفتوة والجرأة والمجادلة بصخب فن، طفتما معارض لدول الخليج كفًّا بكف، مستفيدين من هذا وذاك، لكن صاحبك أصابته صدمة الوعي التشكيلي قبلك واستوعب ما يدور خارج الحدود، خصوصًا حين تقدم بعمله الواقعي للمعرض السنوي لجمعية البحرين للفن المعاصر مصطحبًا أصدقائه ليروا عمله، لكنه لم يلقاه معلقًا، أصيب بخيبة أمل في ليلة لا يحسد عليها وعلى الرغم من مرارة الموقف تفحص أعمال الأساتذة وذوي الخبرة بحيرة السؤال “إلى أين تتجه اللوحة المعاصرة”، ودَّع كل ما يمت للواقعية المألوفة للعين الذي لا تجديد فيها يذكر، سوى النقل الحرفي، فاقتفى أثر المجددين بحسن توظيف وذكاء، هو أمسك بالخيط فاهتدى لبوصلة الحداثة قبل كثيرين ممن سبقوه في غمار التجربة.

عدوى التغيير أيضًا أصابتك بالذهول ورتحت تتساءل ذاتيًّا
” أين مكاني
من حراك اللوحة”؟
في البدء عشت التوهان واجتزاء عناصر من هنا وهناك، ثم ما لبثت التخلص من ربقة سطوة التقليد،
فطنت لشيء مغاير قائلًا: حان وداع اللوحة المقلوبة بترك بصمات الغير، عاقدًا العزم على الذهاب نحو مفهوم الفن اليوم، ركنت ما ألفت عليه وقبل التخلص من إرث الماضي قدمت لوحات تعبيرية لطفولة تنظر بذهول وسط ألوان داكنة، براءة حائرة وحيدة في البيداء، هو طفلك الأكبر
” قاسم” أسبغت على ملامحه الحزن دون قصد، تارة جالس على الكرسي تائه النظرات ولوحة أخرى مغمض العينين رافعًا يديه عند أذنيه كأنه ينوي إقامة الصلاة بأنين المغتربين، عملان متفردان من بين كل أعمالك، والثانية تذكرنا بلوحة الصرخة “لإدوارد مونش” ، لماذا رسمت طفلك في جو من الوحشة وتعابير وجهه تنطق بالحزن والأسى، هل قرأت ما يخبئ له القدر مستقبلًا، عندما يشب عن الطوق وينبت له العارض!
الآن استوعبنا لماذا رسمته باكرًا بتلك الوضعية وبألوان كاتمة، أي حدس راودك.

كم أغراك اللون الصريح فعاجلته على الأشكال المبسطة دون دمج أو تخفيف، طلاء مساحات تقصر وتكبر لمربعات ومستطيلات عمودية وأفقية ضمن تشكيلات معمارية، وأخرى هندسية مؤطرة بخطوط مزدوجة، تجاورها موتيفات زخرفية كشرائط صاعدة ونازلة، وشبه “روزنة” في الخلف تعلو قليلًا ذات أضلاع مختلفة تبدو للناظر في حالة تجسيم برغم التسطيح الذي يكتنف التكوين، تماثلها وزنًا آنية فخارية انساب عليها اللون نزولًا في جوفها حتى امتلأت عن آخرها وفار على جدرانها وساح على الأسطح.

ثم مضيت لرسم أغصان وحيدة كأنها سيقان سنابل مجردة تتثنى بالانتفخات المتورمة ثمرًا والمنتفضة شررًا لونيًّا.

وراق لها التجريب في خضم المدرسية الحروفية، فاستهواك حرف النون دون غيره من الحروف، انتخبته لأنه الحرف الأخير من كلمات فن ولون ولقب عائلتك “الحمران” نون سطرتها شكلًا و عمقًا في لجة ما وراء الشكل بدلالة أبعد، نون مقدسة لترادفها قسمًا مع القلم، حركها قلمك تخطيطًا وبالريشة كسوتها لونًا في حراك متموج بين درجتي البنفسجي الغامق والفاتح، وأخرى نونيات راقصتها بين نصفين متضادين لونًا أحمر قانٍ وأبيض زاهٍ، سلسلة طابعها الاصطفاف الدلالي وموسيقى الحرف.

وبحكم الألفة والمعايشة مع صاحبك تأملت بتعجب لما يزوّقه على لوحاته الجديدة من اشتقاقات زخرفية مستلهمة من المنسوجات الشعبية،
راق لك هذا الطرح الممزوج بين الأصالة والمعاصرة، فسرت لتطبيقه في جملة أعمال، حتى أشير إليك تساؤلًا، ما الفرق بينكما، اشتغالان متشابهان كأن الأنامل واحدة!
وصلتك الرسالة بامتعاض ودوران للمراجعة ومحاسبة النفس دون هوادة، أخذت الأمر بجدية وتفكر، وقررت شق طريقك بأسلوب يخصك أنت وحدك.

وبعد مكابدة وبحث اهتديت لسكب اللون والنفخ فيه ليتاطير كالشرر وفق رؤياك المتصفة بالعنفوان، وجعلته يتشضى في فضاء اللوحة بحرية مطلقة، طلاقة فنية فتنتك باسم التجريدية التعبيرية، وعرابها “جاكسون بلوك” استوحيت من طريقته ما شئت، لكنك أحدثت المغايرة بالدمج بين التجريد الغنائي معًا، جامعًا بين التلقائية والقصدية، اشتغال ديناميكي أسرى بك من القطيف إلى الشام، وارتحلت به من صالة مقر عملك إلى الدوحة ” كتارا”.

أربعة معارض أنجزتها طوال مسيرتك الفنية، حملت عناوين انسكاب لون وملامح.
واستليت من أجواء تلك الأعمال المتفرقة مستقرًا لأرضية وخلفية، بإضافة قوس سقط من علو وانغرس نصفه أرضًا والباقي ساطع للشمس تخافه الطيور من حدته، ثابت بانحناء ذات اليمين أو الشمال، وتمثلته في مشاهد عدة باستحضاره مثنى وثلاث ورباع بتجاور وتباين طولًا وحجمًا، أقواس لا تعرف السكون، تعلو وتهبط بعدًا وقربًا، هل هي ركائز منتصبة لعلامات غامضة، أم شواهد لقبور، أقواس كالرماح تهزها الرياح، يتطاير من كتلتها شظايا لون كانتفاضة أجساد خيول مرشحة بالماء.

أيها المحارب العصامي الذي علم نفسه بنفسه بنفحات التأثير تدريبًا وسعيًا للهضم والاستيعاب زمنًا، إلى أن وصلت بجهد ووعي لاستقلالية متفردة، يشار لريشتك هذا هو الفنان محمد هلال الحمران، وهذه لوحاته ذات البصمة المميزة، أي فخر لك أن تكون فنانًا وسط المئات من قدماء وجدد يتسابقون للعرض كل يوم، فأنت لم يضمك معهد فني ولم تأويك أكاديمية فنون، بشدة بأسك استطعت أن تحفر اسمك بين الأسماء اللامعة بتضحيات جمة وشغف لا متناهٍ للفن، ما أعجب شخصيتك الفذة وأنت على السرر البيض تتقلب خيالًا للفن، متحفزًا في أقرب فرصة للانطلاق مجددًا بعدو المسافات وأفق الصالات، لعيون كانت ستنتظر معرضك الخامس في سلطنة عمان، والسادس في المغرب، والسابع في أرض الكنانة .. والعاشر في عروس البحر، متطلعًا لمعارض خارج المحيط العربي، وما بينهما خطتك المعدة لنقل مرسمك فوق سطح المنزل بتوسعة أكبر وإضافة قاعة عرض ليحوي ما كنت تنوي تنفيذه من تصورات ورؤى، كم همست للمحبين عن أشياء خلاقة باسم جماعة الفن التشكيلي بالقطيف وطموحات فردية، أفكار راودتك لم تبح بها لأحد لمحت بها لممًا، قائلًا أثناء مساءات خميسية الجماعة:
“انتظروني أحبتي بعد أن أسترد عافيتي فالقادم أجمل”، لكنك أيها الفارس ترجلت خلسة من صهوة الجموح ورحلت ويداك مخضبة بحراك الألوان، تاركًا حلمك الذي لم يكتمل.

وبعد رحيلك المرّ هب لفيف من أصدقائك وعائلتك الكريمة وطائفة من جماعة الفن التشكيلي بالقطيف للتحضير على مدى ستة أشهر لإقامة احتفالية وفائية لإحياء سيرتك العطرة المكللة بالإنجاز تلو الإنجاز رئيسًا وفنانًا مؤثرًا على ساحتنا التشكيلية المحلية،
فتنافس الشعراء بأمسية “نبض” لتقديم صورتك البهية بجوار فيلم بعنوان “ذخيرة الأصدقاء” الذي أظهر من تكون، الفائض من حسن فنك وجمال روحك، ومعرض استعادي ضم كثيرًا من أعمالك مع تقديم أمسية من قبل العارفين لقيمة منجزك ورقي إنسانيتك، معرجين على حراكك جماعيًّا وفرديًّا، وكتيب وثق كل تحولاتك ومحطاتك الفنية، وكان الإعلام حاضرًا بحسن التغطيات، وكذا الأيدي السخية تبارت للظفر باقتناء أعمالك، ومتطوعون ومتطوعات ومتبرعون ومتبرعات قدموا ما جادت به نفوسهم الخيرة من عطاء، وتقف من ورائهم جمعية التنمية الاجتماعية بالقطيف وجمعية الثقافة والفنون بالدمام، كلٌّ ساعد في إنجاح فعالية تعتبر حدثًا فنيًّا استثنائيًّا، فعالية متنوعة أنجزها المحبون لك على أكمل وجه، ستبقى خالدة في ذاكرة الفن التشكيلي
بالقطيف بشعار لحن الوفاء.

يا أبا قاسم أيها العزيز نم قرين العين فالمحبون المخلصون على نهجك الإنساني والفني سائرون.



error: المحتوي محمي