ورد عن الإمام الهادي (ع): الناس في الدنيا بالمال وفي الآخرة بالأعمال (نزهة الناظر ص ١٣٩).
يشير الإمام الهادي (ع) إلى نقطتين مهمتين تتعلقان بالتوجه العام عند أهل الدنيا المتعلقين بمظاهرها الآسرة لقلوبهم، وعمادها امتلاك المال وجعله قيمة لا تضاهى له ولصاحبه بحيث يتبوأ المكانة العالية بغض النظر عن صفاته الأخرى، وهذه الإشارة من الإمام بالطبع تحمل معنى الذم والتحذير من الانسياق مع النظرة الجمعية السلبية فإن لذلك من الأضرار والخسائر الفادحة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا جامع المال يبتلى بآفات الطمع والبخل وتبلد المشاعر تجاه المحتاجين والمعوزين فيصبح أسيرًا للمال وحارسًا له، بينما نظرة الإكبار لأصحاب المال تجعل الفرد فاقدًا لكرامته ومنسلخًا من كل القيم الأخلاقية والإنسانية، ويصبح مهيئًا للقيام بأي دور محرم أو إجرامي كالسرقة ونهب أموال اليتامى وقبول الدخول في المعاملات المالية المحرمة كالرشوات والربا وغيرها.
يحذّر الإمام الهادي (ع) من ظاهرة اجتماعية خطيرة وهي الجاذبية السحرية التي لا تقاوم للمال وتبجيل أصحابه مهما كانت شخصياتهم، فالنظرة المادية البحتة تجمل في عيون كثير من الناس صورة صاحب الثروة وإن كان في حقيقته يحمل الكثير من الأمراض الأخلاقية كالأنانية واستصغار الآخرين واستقزامهم، بل وتصبح كلمته مسموعة ويفرض وجوده ورأيه في كل موضوع يتدخل فيه بنحو ديكتاتوري بغيض، وخصوصًا أنه يحظى من أكثر الناس بالاهتمام والخضوع أمامه صاغرين، كيف وهؤلاء الحيتان ماليًا يقزمون الناس ويعتقدون أنهم قادرون على شراء الذمم بأموالهم، وما يزيد في تماديهم هو خنوع وتصاغر أصحاب المصالح بين أيديهم فيصدرونهم المجالس والمنتديات، وهم في الحقيقة يعرفون – عز المعرفة – أن ما يبديه الناس لهم من تبجيل لا يصدر من احترام بل هو مجاملات مقيتة وطلب مستمر للمنافع واستدرارها، ويتحمل أصحاب المصالح منهم الإساءة والاحتقار ولا يعيرون اهتمامًا بما يتلقونه من صنوف الإهانات والإذلال منهم، فالإنسان في وجوده الأخلاقي والإنساني عزة وكرامة، وإذا افتقدها فسيكون مطية مسخرة يندفع باتجاه المال وإن تعرت سوءته المعنوية!
وعندما يحذّر الإمام الهادي (ع) من النظرة المادية البحتة فهذا لا يعني وجود نظرة شرعية للمال تتصف بالذم والسلبية بنحو العموم، كيف والكل متفق أن المال عماد الاستقرار وراحة البال في الحياة حينما يعمل رب الأسرة ويكد من أجل تحصيل لقمة الحلال وتوفير مستلزمات الحياة الكريمة لأسرته، فهذا العمل مقدس في نظر الشارع ويثاب عليه لأنه يحفظ أسرته – نواة المجتمع – من الانجرار نحو الحرام بحثًا عن المأكل والملبس، كما أن المال باب واسع للمؤمن في بناء رصيده الأخروي من خلال المشاركة في أبواب الخير والإنفاق في سبيل الله تعالى ومساعدة الآخرين وصنع المعروف، وإنما المذموم هو النظرة المالية والانحدار الأخلاقي لمستوى العبودية له وخضوع كل تصرفات الفرد وفق المصالح والمنافع المالية، والذي يعني تحول الإنسان المكرم إلى ألعوبة وأداة طيعة لمن يدفع فبئس الوجود والقيمة للمرء حينئذ!
ويؤكد الإمام الهادي (ع) على حقيقة ارتباط الدنيا والآخرة فالدنيا دار عمل وسعي نحو تحصيل رضا المعبود؛ ليتم في الآخرة تلقي حصاد ما عمل في دنياه والمجازاة بالعدل على ما صدر منه من أعمال حسنة أو سيئة، فالاعتقاد بالآخرة وجعلها نصب العينين في كل خطوة وكلمة تصدر منه يجعله مندفعًا بحصانة عن الوقوع في الزلل، والنظرة الارتباطية بين الدنيا والآخرة هو ما يكون القناعة والرضا بالرزق عند الإنسان، فالقناعة لا تنافي الطموح بل تعني أن الإنسان يرضى بما قسمه الله تعالى له دون النظر لما في أيدي الناس، مع عمله المستمر لتحسين قدراته ومستواه فالمؤمن صاحب أمل وصبر، وعينه غير مكترثة بحظوظ الدنيا المادية الفائتة بل ينصب جهده على تحويل ساعات عمره إلى أعمال صالحة يقدمها بين يدي حسابه في يوم القيامة، فهمته العالية تنصب على عمل الخير وبذل المعروف وتطويع جوارحه في محراب العبادة والطاعة.