في وقت استراحته كان يتجول في الحي ماشيًا بين دروبه الضيقة، وبين أصابع كفه المعروقة لفافة تبغ يدخنها بكيف.
أظنه يذوب مع دخانها كغيمة، ويستعيد نفسه في الرشفة التالية. كانت هذه الجولة تمثل له متنفسًا للضغوط اليومية، كاستراحة محارب في معركته مع طواحين الحياة.
كان رجلًا بسيطًا جدًا. عادة ما يرتدي البنطلون، والقميص المقلم نصف الكم، وينتعل حذاء أسود متواضعًا؛ فهو خمسيني العمر، أشيب الشعر، حليق الذقن.
أظنه رجلًا من بقايا الفكر القديم، من بقايا مثقفي تلك الحقبة الآفلة.
في محادثاتنا الثنائية اتضح أنه مثقف من نوع نادر. يختلف في فكره عن بيئته المدرسية من المعلمين الآخرين، فهو معلم رياضيات عتيق. يقدم دروسه بانتظام، ويحضر حصصه، ويشارك في أعمال المدرسة، فيأخذ دوره في الحياة كجزء منها؛ منتجًا وفاعلًا.
ذكر لي ذات مرة في كلام عابر أنه كان يشارك بمقالات في صحف بلاده، وتحدث حينها عن فترة الاستعمار الإنجليزي في السودان، وكيف يعتنون بنوعية التعليم، وضرب مثالًا في كيفية صياغة طرق أسئلة الاختبارات التي تهتم بدرجة ومستوى الفهم، وتبتعد عن التلقين، وأضاف أن نظام التعليم يهتم برأي الطالب عبر سؤاله عن رأيه الشخصي بأحد مواضيع المنهج.
واستطرد مثنيًا على أحد المعلمين، وطريقة تقديمه للدروس مستخدمًا الطرح القصصي حيث يرافق طلابه في جولة حالمة كقصة. فالدرس عنده حالة من المتعة.
ويضيف ذاكرًا اتسام الاستعمار الإنجليزي باهتمامه بالمدنية، وبناء الجسور، ورصف الطرق، ومظاهر العمران البادية للعين، كان ينظر بعين الناقد. كان يريد أن يقول إنه ليس كل الاستعمار سيئًا؛ ففي بعض جوانبه نقلة حضارية، وحالة من التعلم.
ذات صباح مدرسي روى مشاهداته لمدينة القاهرة أيام كان طالبًا يدرس في إحدى جامعاتها، واصفًا إحدى صورها لبائع خبز شاب. كان يعبر في دروب المدينة المزدحمة بالمارة، ودخان السيارات، وزعيق الباعة، وهو يحمل سلال الخبز بيديه وعلى جانبيه وفوق رأسه بتوازن كبهلوان سيرك، ويمر بين كل هذا الازدحام، والضجيج، فلمحه صحفي فرنسي أعجب ببراعة الموقف، فما كان منه إلا أن التقط صورة لهذا البائع الكادح، لتجد هذه الصورة طريقها في إحدى الصحف الأوربية، كتعبير عن طريقة الحياة في القاهرة.
هذا المعلم يمتلك طريقة ساحرة في الوصف، فيبعث الحياة في الرواية التي يسردها، فذات مرة وصف حواري وأزقة القاهرة الكثيفة، وبناياتها العالية المتراصة كعلب السردين، والشرفات المفتوحة على بعضها، وثرثرة النساء اليومية، وتبادل الأحاديث بينهن على أطراف تلك الشرفات. جعل بوصفه الحياة تدب بين الحواري، وتتسلل بين الأزقة، والبيوت بطريقة مصرية صرفة، وخالصة لا تتكرر في غير القاهرة.
بعد ختام تجربته كطالب في القاهرة. اتجه إلى ليبيا كمعلم. وامتدت تجربته نحو عقد من الزمن. وهنا شاهد بنفسه الآثار والتشوهات النفسية التي خلفها الاستعمار، وطرق انتهاكه للحياة بشكل فج ومهين.
زرته ذات مرة، فاحتفى بي بكرم، وجود بطريقة تقاليد بلاده العربية الجميلة، وفي حديثنا أخبرني أنه وأصدقاءه يلتقون شهريًا لمناقشة كتاب بعد قراءته كبرنامج ثقافي. فمازال هذا الرجل مخلصًا للثقافة بوصفها مفهومًا رمزيًا، ومواكب لكل جديد في هذا العالم من الأفكار، والتصورات.
في أحاديثنا اليومية وجدت دائمًا الفارق الفكري بينه وبين الآخرين، فعلق ذات مرة على ظاهرة انتشار التشدد والانغلاق في بعض المجتمعات، وعدم تقبل هذه الظاهرة في مجتمعات أخرى، وعزا ذلك إلى الركود الفكري الذي شبهه بالماء الآسن؛ لذلك تجد الجماعات المتشددة ذات اللون الواحد بغيتها في هذه المياه الآسنة.
في هذا العمر الطويل الذي يستعد فيه المرء للراحة، ويتخفف فيه من الأعباء. لايزال هذا الرجل يناضل ويكافح. فبينما هو في الغربة برفقة أسرته الصغيرة. لايزال ملتزمًا بتوفير مصاريف ابنيه ليكملا تعليمهما الجامعي في بلاده البعيدة، فمدخوله المتواضع تتقاسمه عائلته، وإيجار شقته، والتاكسي اليومي في رحلته لعمله، وولداه البعيدان.
ذات صباح، ومع بداية عام جديد بلغني خبر انتقاله كمعلم إلى مكان نائٍ بعيد على أطراف الصحراء، ومن ذلك الحين انقطعت أخباره، وكما هي الأقدار اختلف مدار قدري عن قدره. لكنها الذكرى رفضت نسيانه كطيف عابر غاب في غياهب الزمن.