الجهل – كما تعلمون – نوعان؛ الأول: ضد العِلم والثاني: ضد الحِلم، ووقع الكثير من التداخل بينهما عند البعض. الجهل الذي هو ضد العلم معروف اجتماعيًا وينتشر في المجتمعات التي لم تعطِ للتعليم أولوية قصوى، والثاني ضد الحِلم وهو الطيش والسفَه وسوء التصرف مع المواقف والأشخاص، وهو المنتشر في المجتمعات المتعلمة وغير المتعلمة ومازال انتشاره سائدًا في مجتمعاتنا المعاصرة؛ ولكن تحت شعارات مختلفة. يقول الشاعر:
ألا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا.. فنجهل فوق جهلِ الجاهلينا
يعتقد البعض من الناس أن حصوله على الشهادة الجامعية، أو شهادة الدراسات العليا، أو وجوده مع طبقة اجتماعية معينة، أو انفتاحه وتحرره تماشياً مع الغربيين؛ يعني انتماءه إلى طبقة المثقفين أو المتحضرين في المجتمع؛ إلا أن هذا الاعتقاد لا يكون صحيحًا في أغلب الأحوال، بل إن نظرة عامة على عطاءاتهم وأدوارهم في الحياة تكفي لإثبات عكس ذلك.
من هنا نستطيع القول: إن الثقافة ليست مجموعة من العلوم، والمعارف، والقراءات التي يتلقّاها الإنسان فحسب؛ وإنما هي عملية بلورة لما يتلقاه الإنسان من علوم ومعارف وقراءات يتبعها ترجمة عملية حسنة في سلوكه وتفكيره.
أصبح البعض من مُدَّعِي الحرية والثقافة يرمون من يختلف معهم فكرًا أو سلوكًا أو توجهًا بالسطحية والبساطة والجهل والرجعية والتزمت.
مشتبهون مَن يعتقدون أن الحشمة والعفاف واللباس الزينبي جهل وتخلّف، ويحسبون الحرية والسفور والتعري الجسدي المغلّف تطورًا وحضارة، كما يعتبرون التواصل عبر السوشيال ميديا أخوةً وصداقة.
لو كان ذلك صحيحًا لكان كل المعصومين من أئمة وأنبياء ومرسلين من الجهلاء والمتخلّفين؛ لأنهم لم ولن يسمحوا بذلك بحال في بيوتهم وفي أممهم بشكل عام حتى لو ظهروا في يومنا هذا، وإذا كان الأنبياء والمعصومون كما يزعمون؛ فإن ذلك يقتضي أن الله لا يحسن الاختيار لعباده، وتعالى الله عمَا يصفون علوّا كبيرًا!
إن بيوت الأنبياء والمعصومين أقدس من محاريب العبادة، كما أن نساءهم من أجل خلق الله سبحانه وتعالى شرفًا وعفة؛ وحتى المنحرفات منهنَ عن خط النبوّة كان انحرافهنَّ فكريًا وعقائديًا فحسب.
الاندفاعية في الحلية تحت شعار الحرية أدى لانفلات الكثير من النساء اللواتي سيدفعن الثمن غاليًا بما إذا ذهبَ ذهبت بها قيمتهنّ وقيمة أسرهنَّ.
كثيرٌ من الذئاب البشرية الذكورية يترقبون هذه الأجواء الباردة الدافئة لاصطياد الفرائس بأيسر السبل، وأسهل الإمكانات، وبالقناعة والرضا.
أنا لا أستبعد – إطلاقاً – أن يصبح تبادل القبلات بين الجنسين والمعانقة، فضلًا عن السلام والمزاح المتمادي بالأيدي، والتعارف المختلط في الكافيهات والأماكن العامة، وتعلم الرقص، وحتى شرب الخمر أعرافًا مقدّسة – مستقبلًا – يسعى لترويجها البعض من الناس الذين لا يضعون للغيرة، والمروءة، والكرامة، والشرف أولوية.
كما أني لا أستبعد أن يكون الزواج في المستقبل محطة تجارب قابلة للتغيير والتجديد بين حين وآخر تحت مبررات واهية، كما هو الحال عند الغربيين وعند بعض مُدّعي الفن، بدلًا من أن يكون حبل الله المتين والعقد النوراني بين السماء والأرض الذي تذوب عنده الاختلافات وتتلاشى المشكلات.
التطور والحضارة لا يعني التلاعب بالمقدسات، أو التجاسر على الدين وأهله بحال، كما لا تعني التعدي على الحدود الأخلاقية الاجتماعية السامية البتّة.
الشارع المقدّس يضع للأعراف الاجتماعية مقامًا خاصًا عند تشخيصه للأحكام، وخاصة حين تكون الأعراف الاجتماعية السائدة فاضلة.
لسنا مع التزمت والانغلاق إطلاقًا، ولسنا ممن حملوا راية التشدد في الدين بحال؛ ولكننا في الوقت نفسه لسنا من دعاة الانفلات والحريّة تحت عناوين براقة أدنى عواقبها تفكك الأسر، وانحراف الذرية، وضياع الطفولة والفضيلة والشرف، فضلًا عن انهيار أقدس بناء في الإسلام، وانتشار الطلاق.
الحضارة تعني الثقافة وهي بدورها تعني السلوك أو تغيير السلوك ولكن للأفضل؛ وبعبارة أخرى: تعني التحلي بقيم السماء، وآداب الأنبياء، وأخلاق القرآن الكريم المُجسدة للذوق، والأناقة، والرقي، والتي تنسجم بدورها مع الحضارة.
من هنا نستطيع القول: إن الجهل الحقيقي عندَ من اشتبه عليهم الأمر، والتبست لديهم المعايير، وانقلبت في حساباتهم منظومة القيم؛ فرأوا المنكر معروفًا، والحسن قبيحًا، واندفعوا كالبراكين الثائرة على نظم السماء وقوانينها، وشرّعوا لأنفسهم شرعًا جديدًا. وبعبارة أدق فإن هذه الصفات بعينها هي صفات القسم الثاني من الجهل الذي أشرنا إليه في أعلى المقال.
بلا شك أن السائرين على دستور السماء، والمتبعين لأخلاق الأنبياء وسننهم؛ كانوا جهلاء في نظر الكثير من مدّعي الحرية في زمانهم، ومازال التاريخ يعيد نفسه ولكن بأساليب وطرق أكثر نعومة وبريقًا؛ ولكن الواقع في حسابات السماء مختلف تمامًا. قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
وخلاصة القول: نحن مع المرونة، وتقبل الرأي الآخر، ومع تعدد الثقافات، واحترام الكائن البشري في كل أحواله ومراحله؛ طالما لم يتعدَّ على الدين والأخلاق والفطرة السليمة، كما أننا نأمل ممن وقعوا في الجهل الثاني وهم لا يشعرون؛ أن يعيدوا النظر في ذواتهم بالإبحار فيها للوصول للحقيقة المجرّدة بعيدًا عن العناد والإصرار غير المبرّر، وأن يضعوا أمام أبصارهم وبصائرهم قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.