قال تعالى: {وكُلُّهُمۡ ءَاتِیهِ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ فَرۡدًا} {مريم الآية ٩٥}.
الآية الكريمة تؤكد على مبدأ مهم في حياة الإنسان الحاضرة والمستقبلية وهو تحمل مسؤولية مواقفه وكلماته وتصرفاته وما ينتج عنها من تبعات، فالحذر الحذر من أسلوب التهرب من المسؤولية واللجوء إلى الخداع والمناورات الكلامية وطرح التبريرات الواهية، فإن هذه الأساليب تدل على ضعف شخصية الإنسان ومسيرته الملأى بالمطبات والخسائر، فإن تخليه عن مسئولية أفعاله لن يعفيه من تبعاتها مستقبلاً، فحبل الكذب والمراء قصير وسريع الانكشاف.
بينما المرء القوي هومن يضع في حسبانه تحمل مسؤولية ما يصدر منه، وبالتالي يضع في لسانه وجوارحه مرشحاً يصفي تصرفاته من التهور والانفعال والشطط قدر الإمكان، وهذا ما نصطلح عليه بضبط النفس أمام تيار الغضب والاستفزاز وتزيين الشهوات وهتافات الأهواء، كما أنه أمام أي هفوة أو زلة يبادر إلى إصلاحها، وذلك أنه يحاسب نفسه فيهرع ضميره اليقظ مسرعاً لتعديل الاعوجاج لإكمال مسيره بخير وسلام.
ونتساءل عن تفاوت وتنوع أحوالنا المادية والوجاهة الاجتماعية والذي له تأثير على مكانة مرتفعي الأسهم منها عند كثير من الناس، فينظرون بإكبار للمترفين الذين تجري الأموال بين أيديهم حتى تورثهم الطغيان، بينما يقيمون الفقير بنظرة دونية واستصغار لحاله، وإن كانت القيمة الحقيقية للمرء والتمايز بين الناس هو مدى قربهم من الله تعالى وتجنبهم للمعاصي والآثام، ولكن السطوة الاجتماعية لأصحاب الأموال تبقى السائدة في الحياة الدنيا مع تعاقب الأزمان والأجيال، ويظن هؤلاء المترفون الواهمون بأن هذا المعيار لا يمكن تنكيس رايته أو تغيير قوانينه، فلهم الأبهة والمعاملة الخاصة، وهذا ما يرجونه من تعامل معهم في الدار الآخرة.
ولكن الآية الكريمة ترفع هذا التوهم وتبدد هذه الأفكار من خلال قوله تعالى: {كلهم}، فالمقياس المادي لا وجود له بين يدي العدالة الإلهية يوم تنصب الموازيين، إذ تظهر الحقائق وتختفي الأقنعة التي تدغدغ مشاعر أهل الغفلة ممن يغريهم المديح والتكريم الخاص، وتبدو جواهر البشر فتبان تلك المكانة الخاصة لأهل الورع والأخلاق الرفيعة ممن كانوا يحملون هم مجتمعهم وبلسمة آلامهم وتقديم المساندة والمعروف، فليكشف المرء عن نفسه تلك المقاييس المادية الواهمة التي لا تعبر عن واقع الحياة الأخروية والتي تقام الموازين فيها على الأعمال الصالحة لا غيرها.
وفي الحياة الدنيا قد يرتكب المرء جناية ويفلت من عقوبتها بسبب غياب الشهود أو أسلوب المراوغة الذي يتبعه لتجنب إدانته بجريمته، والإنسان جهول فيعتقد أنه في كل مأزق أو محاكمة يخضع لها يمكنه الإفلات من جريمته بالكذب والخداع، ويظن واهماً أن المحكمة الإلهية لا تختلف عن كل محاكم الدنيا فلا يخاف على نفسه من حلول العقوبة عليه، فيأتيه مذكر آخر وهو: {آتيه يوم القيامة} لعله يفيق من سباته وغفلته، فالمشهد هناك يختلف تماماً فلا يمكن إنكار المعصية، كيف وأعظم الشهود عليه هي جوارحه ذاتها، والتي ينطقها سبحانه وتعالى فتنبئ بما قدم المرء من فعل وكلمة في الحياة الدنيا وحينها ينقطع الخطاب عنده!!
والنقطة المهمة الأخرى في الآية الكريمة هي تقرير مبدأ تحمل المسؤولية، فكل فرد يأتي لوحده بدون مظاهر القوة الدنيوية حيث كان فيها يحاط بأهله أو أولاده أو أصحابه، لا يرافقه في يوم القيامة سوى عمله في الدنيا وهو المائز بين معيار القوة أو الضعف، وهذا ما يحتم عليه الاستعداد لذلك اليوم بعيداً عن المظاهر الوهمية للقوة والاقتدار.
ولتحمل المسؤولية آثار إيجابية على المرء ومنها تحليه بروح الإخلاص وقصد وجهه تعالى فيما يقدم عليه من أعمال، كما أنه يكسبه الإرادة القوية والهمة العالية في ميدان العمل إذ حينها يتخلص من تبعات الشهوات والأهواء الملهية عن طريق النجاة والسلامة وهو طاعة المعبود.
حقيقة الإنسان في الآخرة ومكانته تخضع لعامل العمل الصالح، بعيدا عن بهرجات المناصب والأموال والتفاخر والتطاول بها على الآخرين، فكل أضغاث أحلام الدنيا المتوشحة بزينتها الزائلة سترفع وتبدد، وتبقى حقيقة صحيفة الأعمال التي يحملها الفرد لوحده بإحدى يديه.