الجص في المباني التقليدية القطيفية

لم يحرص أي كائن حي على هذه المعمورة كالإنسان باهتمامه وتزيِّين مأواه ومكان حياته، في بداياته اتخذ صخور وجدران كهفه ومأواه مرسماً ليعبر عن حياته اليومية بالرسوم البسيطة والنقوش والخطوط والزخارف المختلفة، وبقى هذا الاهتمام ملازماً مع اختلاف وسائل التعبير، سواء كان بالجص أو الحجر أو الطين أو الأصباغ الطبيعية (بعض النبات والدم وبعض الحشرات)، والجص أهم هذه المواد والذي كان يبني به المباني والمنازل والذي كان “يمسح” بطبقة من الجص لتستر عيوب الحجر، وتَمّمَ جمال منزله بالزخارف.

وما نشاهده في المباني التقليدية من زخارف ونقوش وبقايا آثار في القطيف ليست وليدة اليوم، بل جاءت عبر تاريخ طويل يعود إلى آلاف السنين (تاريخياً تمثل واحة القطيف أحد الأركان الثلاثة لإقليم البحرين الذي يضم – بالإضافة إليها – كلاً من واحة الأحساء وجزيرة أوال (التي تمثلها حالياً مملكة البحرين).

لقد مرت على واحة القطيف حضارات متعددة ترجع لآلاف السنين قبل الميلاد مثل الكنعانيين والفينيقيين، وشهدت واحة القطيف في العصور القديمة أيضاً حكم البابليين والآشوريين والسومريين والكلدانيين والآكاديين والساسانيين (اشتهرت باستخدام الجص) والمناذرة، كما شهدت في العصور المتأخرة حكومات إسلامية متعددة كالأمويين والعباسيين والقرامطة والعصفوريين والعيونيين والبرتغاليين والمشعشعين والأحوازيين والخوالد والعثمانيين وحكم الدولة السعودية، حيث برعت بعض الحضارات المتعاقبة على المنطقة، في طلاء جدران منازلهم بالجص، وأتيح لسكان هذه المنطقة أن يتقنوا هذه الصنعة وأن ينقشوا مبانيهم بزخارف متنوعة يرجع كثير منها إلى أصول محلية وبيئية.

ونظراً لسهولة النقش أو الحفر على الجص، استطاع الحرفي الماهر محاكاة ونقل هذه المهارة من جيل لآخر، واستطاع أن يضيف وينحت ويزين الساجات والمباني وحجرات البيوت والمجالس من الداخل بمفردات جصية مصنعة بطريقة القالب أو بطريقة الحفر والإزالة مباشرة، سواء غائر أو بارز، واستخدم البناؤون كل الأنواع الحفر في الماضي، إلا أن السائد كان الحفر الغائر (الساجات والشبابيك الجصية بنوعيها المخرم والغائر).

ولقد ارتبطت الزخرفة الجصية بالمباني والبيوت، حيث تُزين بها المداخل والواجهات والعقود والأعمدة والمحاريب والكوات وأعلا الأبواب ، كما ظهر الحفر على الأبواب والنوافذ الخشبية، واستعمل الحرفي الزخارف الهندسية في النقوش الجصية بشكل ملفت للنظر مقارنة بالنباتية والخطية.

ولا شك أن اهتمام الحرفي بالزخارف الهندسية يعود إلى عدة عوامل، أهمها العامل الديني والابتعاد عن محاكاة ذوات الأرواح، ونزوعه الفطري نحو التجريد، بالإضافة إلى التوجيه الذي تفرضه الحاجة والإرادة في أثناء عملية الإنتاج.

ولم يترك المعماري في القطيف المباني التي شيدها دون الاعتناء بها، فزينها بزينة تنم عن دقة وإتقان وذوق سليم، كما اهتم بداخل البناء أكثر من اهتمامه بخارجه، وانتقى الزخارف بدقة واهتم بنوعيتها، فنرى غالبية الزخارف “هندسية ونباتية وخطية”، ولقد كانت بيوت كل من قلعة القطيف وجزيرة تاروت ودارين وسيهات وبعض البلدات تتميز وتشتهر بالزخارف الجصية الهندسية والنباتية والخطية.




error: المحتوي محمي