الغذاء الفكري والأخلاقي

ورد عن الإمام الحسن المجتبى (ع): “عَـجِبْتُ لِمَنْ يَتَفَكَّـرُ في مَـأْكُولِهِ كَيْـفَ لا يَتَفَـكَّـرُ في مَعْـقُـولِهِ، فَيُجَنِّبُ بَطْنَهُ ما يُؤْذيهِ، ويُودِعُ صَدْرَهُ ما يُزكيه” (سفينة البحار ج ٢ ص ٨٤).

ماذا تعني حالة التعجب والاندهاش التي يبعثها ويثيرها الإمام المجتبى حول حالة الاهتمام بنظام التغذية الصحي وتوفير مواد غذائية متنوعة توافق مشتهاه؟

لا بد من ملاحظة الدلالة السياقية التي من خلالها أشار الإمام (ع) لها والذي يندهش فيه من الاهتمام الكبير بالنظام الغذائي، وهو أنه (ع) جعله في إطار الآلية للصورة المراد توضيحها من خلال توظيف أمر محسوس انتقالاً منه إلى الأمر المراد، إذ محرك البحث التفكيري في المسألة هو معيار النظر في النتائج المترتبة على الخطوة التي يقدم عليها إيجاباً وسلباً سواء في نظام تغذيته أو جوانب حياته الأخرى.

فالباعث واحد وهو الإقدام على الموضوع المعين نظراً لما يستشرفه المرء من فوائد تعود عليه، أو الإحجام والتوقف بسبب ما يحمله ذهنه من نتائج سلبية تعود عليه بالوبال والخسران، وهذا ما يشير له الإمام (ع) من توسيع دائرة قاعدة الضرر والنفع على جميع مستويات وأبعاد حياة الإنسان ولا يقتصر على المحسوس منها، بل عليه تنشيط فكره وتوجيهه للنظر في أي أمر من الأمور قبل الإقدام عليه فينظر في اتجاهه واحتمالاته قبل أن يقع فيما يندم عليه، فهناك أضرار وخسائر تعود عليه تماما كما لو أنه استطعم وتناول ما يسبب الأذى لبدنه، فهناك أضرار تصيبه في الدنيا والآخرة كما هي المساوئ الأخلاقية والمشاعر السلبية تجاه الآخرين، مما يكدر صدره ويلوثه بسواد الكراهية والحسد والأضغان والدخول في معترك المناكفات والخصومات، فيشغل عقله ووجدانه بأحوال الآخرين فيصيبه الهم والغم إن كانوا في خير وعافية ويتشفى ويفرح متى ما أصابهم الضرر، فالقلوب السوداء بعيدة عن الله تعالى فلا تفرغ لطاعته، فالمؤمن صاحب قلب أبيض طيب يمد جسور المحبة والاحترام ويتعامل مع الغير بالحسنى والتسامح وتجنب مواطن المشاحنات.

والتغذية الفكرية من خلال القراءة والبحث عن مخزن للمعلومات النافعة يرفد به عقله، فيكسبه قدرة عقلية على قراءة الأمور والأحداث بنظرة متأنية مدروسة، فمن يهتم بنظامه الصحي كيف له أن يهمل عقله من الزاد المعرفي ويقضي أوقاته في اللهو والمرح فتأخذه الدنيا بعيداً حتى يخرج منها خالي الوفاض، بينما لو تأمل المرء في أهمية المعارف في توجيه خطاه في الدنيا لما ضيع لحظة منه، بل حوله إلى محطات معرفية ينتقل فيه من مرحلة إلى أخرى فيراكم المعلومات التي تنور طريقه.

فأسمى الأهداف التي يسعى المرء لها هو الترقي في درجات الكمال ومنها الكمال المعرفي، وعلى مستوى علاقة العبد بربه تكون في أعلى درجاتها حينما يأتي بها عن معرفة وإدراك لمضامينها الصانعة لشخصيته، فالعبادات تدعو إلى بناء شخصيته وفق التقوى والخشية من الله تعالى ويقظة الضمير وتجنب النقائص والعيوب.

وعجباً ممن يشغل وقته بكل شيء حتى الأشياء البسيطة منها ولكنه يتذرع دائماً بالانشغال عن مجالس العلم والذكر والاطلاع على المعارف القرآنية والعقائدية والأخلاقية، فالبرنامج الروحي المتضمن لتهذيب نفسه وصقله بالقيم التربوية وتجنيبها الرذائل التي تصيب الروح فتمرضها وتشوه مسارها، فكما يهتم بفكره من الإصابة بتلوث الأفكار المسمومة والانحرافية التي تقوده نحو الهاوية، فكذلك يصقل نفسه بقيم الصدق والأمانة والاستقامة، فصاحب العقل الواعي الناضج يستبصر عيوبه ويعمل على تلافيها وتجنب السقوط في وحلها، فمعرفة النفس في آمالها ومشاعرها وطريقة تفكيرها ومن ثم العمل على توجيهها بالالتزام بالقيم الأخلاقية يعلي شأنه ويثبت وجوده ويقوده نحو الكمال والسمو الروحي.

والخلاصة أن الإمام الحسن (ع) يدعو إلى تحريك العقل نحو قاعدة البناء وتجنب الأذى والضرر في غذائه وطعامه الصحي، وكذلك تغذية عقله بالعلوم النافعة التي تبصره بالحقائق والمعارف والشبهات الفكرية، وتغذية روحه بالقيم التي تزكي عمله وتصقله بالأخلاق الحسنة.



error: المحتوي محمي