معرض روازن مساحة للحب والنقد الرحب

بالحب تسمو النفس، وبالفن ارتقاء للوجدان، قلب الفنان مثل غيمة مسافرة، مأسور بالترحال والهيام، عروج المخيلة تجوس الأمكنة وتعبر المسافات، بحث عن ومضة فكرة، عن سطوع صورة، عن التقاط رؤية وانثيال معنى، تتبدى لمحات وتلوح أطياف، فجأة تتنزل صيباً على الأسطح المخاتلة، تندس بين ثنايا اللوحات.

أنامل الفنان ينبتها براعم تكوين باصطفاف خطوط مبدئية، تنمو تحت وطأة اشتباك الحواس ومداهمة التحضيرات الأولية، تتخلق عناصر وتتجاذب ألوان، وتتقاطع لدائن الطبقات، حذف وإضافة، تشذيب وتهذيب، والشكل هاجس وحالات قلق وتوتر، ديناميكية الاشتغال ثورة انفعال، شيئاً فشيئاً تتجلى مشهدية اللوحة أمام ناظر مبدعها كمخاض عسير وصيحة فرح، إنتاج عمل أشبه بالولادة، لذا قيل مجازاً إن أعمال الفنان مثل أولاده.

أهل الفن لا يتوقفون عن إنجاز اللوحات أو مشاركة في معرض هنا وهناك، تعتريهم رغبة جامحة للتعبير عما يجول في نفوسهم وكل ما يداعب الخيال، هم رسل فن وذاكرة أمم، خربشاتهم متعة، ألوانهم بهجة، وكثير من أعمالهم رسائل حب، تراهم يتجردون من كيانهم المادي ساعة البحث والتجريب والتنقيب، تحلق أرواحهم عبر فضاءات بعيدة، ارتحال نحو أحلام لا تنتهي سعياً لكل ما هو جديد.

وكم هو جميل رؤية الأعمال الفنية المنجزة من قبل أنامل فناني وفنانات القطيف في معرضهم “روازن 2″، ذائقة مفتوحة للفن ومفتونة بشغف يجسدون رؤية بانورامية، تتألف من لوحات صغيرة تتجاور بحب وألق، دعوة للغوص في أعماقها بمساحة فرح ضافية على صالة علوي الخباز للفنون.

أعمال متنوعة لأجيال مختلفة شكلها 63 فناناً وفنانة، يعرضون نتاجهم المتنوع بين أسطح الكانفاس بـ 167 لوحة وتضاريس 3 منحوتات، والغلبة لنون النسوة الحاضرات وبقوة، والعلامة مشاعر فيض وسط نماريق الجمال.

معرض يحوي جميع المدارس الفنية، وتعدد الممارسات، لا يخلو من التباين في الطرح وتفاوت المستويات، هناك أعمال فنية راقية من حيث الاشتغال المتأني والمدروسة بإتقان، وأخرى في طور النمو بحاجة للتروي وعدم الاستعجال، وفئة تبحث عن بصمة خاصة لتعرف من دون أن تذيل بتوقيع اسم صاحبها، إجمالاً كل عمل قائم بذاته، يحيلنا للمحاورة الجادة بالاقتراب من عوالمه، والنظر إليه بتأمل وتفحص، وسبر عناصره، وتشريح مكوناته، بقراءة نقدية موضوعية مع مراعاة زمن تجربة كل فنان أو فنانة على حدة، ومن ثم تبيان جوانب القوة والتأكيد عليها، والإشارة لنقاط تحتاج للمعالجة بغية الوصول لما هو أفضل.

زخم أعمال روازن الذي يمثل سلسلات، عبارة عن 3 لوحات لكل مشارك، متقاربات في الطرح والتكنيك، وقليل قدم لوحتين أو استبعدت منه الثالثة، لعدم توافق الرؤية.

إن الوقوف على أعمال المعرض اللوحات الصغيرة يحتاج لحلقات وذلك لزخمه المتنامي والمتشظي أشكالاً وألواناً، لكن ثمة رؤية مشتركة قاسمها السعي نحو الجودة والإجادة بين ما هو تقليدي وآخر معاصر، وما بينهما فيض كلام يطول به المقام.

ولكن تبقى لغة التحاور مطلب نقد مشتهاة في حضرة الفنان وأمام عمله مباشرة باسترسال واستطراد مطول، إن تبادل الآراء جزء كبير من حيوية كل معرض، نقاش دال يثري معالجة هذه الكتلة وتقليب ذاك التكوين، ودمج هذا اللون وتعريج ملامس سطوح تلك اللوحة أو مدى ترابط السلسة مع بعضها، والأبعد انطباق الفكرة بالمضمون.

قد يتباين النقد عند زائر وآخر، وبين عين ناقدة واعية وصاحب العمل ذاته، قد يلتقيا قد يختلفا، لكن يبقى العمل الفني حمال أوجه، والنضج غاية تدرك ولو بعد حين، بالصبر والانكباب والبحث المستمر وضمن مشاهدة دؤوبة شرقاً وغرباً، ومعايشة لروائع الفن في كل الاتجاهات، هو الطريق الصحيح لمقارعة تخوم الإبداع.

كل الأعمال المعروضة في المعرض بصفة عامة تثري البصر وتنعش الذائقة، بدءاً من الأعمال القوية مروراً بالجيدة والمتوسطة وما دونهما فروقات، وحتى المشاركات لأول مرة أعمالها حلقة وصل للانضمام للكوكبة البارزة، طبعاً بالسعي قدماً نحو التطوير وتحدي الذات.

النقد ليس إملاءً على رؤية الفنان أو مصادرة رأيه، إنما هو مساحة حرة بين الاستجابة وعدم القبول، لكن تبقى المسألة تتوقف على أسلوب الناقد، وبالمقابل التكيف بمرونة لأي نقد مهما كان.

طبعاً نقد خاضع للمعايير الفنية وليس نابعاً من هوى أو حالة مزاجية عابرة، نقد خبير عارف بالأسس الصحيحة للفن، ذو عين حاذقة، وحتى لو كان النقد ضمن مساحة الاجتهاد، هو في النهاية من مصلحة الفنان أولاً وأخيراً وأيضاً تنوير لرؤية المتلقي، وما أجمل الإصغاء لروح النقد وأخذه برحابة صدر.

كل الأعمال الفنية في كل مجالات الأدب والفن والثقافة تخضع للنقد والتقييم، تثميناً وتقديراً لقيمة المنتج والاحتفاء به، وكذا البحث عن جوانب ليست منظورة قد تكون غائبة عن رؤية الفنان.

تنوع أعمال روازن وكثافة اللوحات، دارت حولها حوارات بين شد وجذب خلال افتتاح المعرض ليلة البارحة وبحضور أحد رواد الفن، على سبيل المثال لا الحصر الفنان عبد الرحمن السليمان والفنان كمال المعلم ومحمد المصلي وعلي السنان، وجمع من الخطاطين والمصورين الفوتوغرافيين وغيرهم من الفنانين البارزين في المحافظة، وسيدور جدل فني وحوار تشجيعي في الأيام المقبلة من قبل الزائرين التواقين لحضور المعارض وسط مجتمع يقدر الفنون.

إن العيون نواطق ولسان الحال ساحة حوار مفتوحة، يحدث التوافق في الرأي وربما التباين في النظرة، لكن ضمن مساحة النقد البناء.

بلا شك النقد إشكالية لا تنتهي قد ترضي البعض وقد يتحسس منها البعض وربما ينفر منها آخرون، وبكلمات صدق لا تكفي كلمات الإعجاب والمجاملة والسلام، كل عمل معروض قابل للنقد تحت مبدأ النقد الموضوعي الهادف.

أعمال العارضين في معرض “روازن” حقيقة تشي بأنامل موهوبة بل احترافية وأخرى تمارس الفن على السليقة والفطرة حباً للرسم دون الخضوع للدراسة الأكاديمية البحتة، وهذا الشيء لافت في هذا المعرض وعموم معارض جماعة الفن التشكيلي بالقطيف، الحاملة على عاتقها نهضة الفن في المحافظة على مدى 25 سنة وبزخم مطرد تحمل الفرادة في الكم والتنوع في الكيف، وهي سمة بارزة مع قدوم وتزايد أعداد المشاركين والمشاركات عاماً بعد عام، باكتشاف أسماء جديدة في كل معرض.

يقدم روازن أنامل محدثة تبشر بخير وتثلج الصدر، تجاورها رؤى متعددة ستؤثر في العيون الطامحة مع الأيام، وكل ريشة عطشى ستكتسب من المعين المفتوح قرباً أو بعداً، والفطين من يسعى نحو الأحسن بتقديم الأفضل ومخطئ من يتوقف عند ما وصل إليه.

السعي الحقيقي لكل فنان صادق بتحدي النفس للوصول إلى تخوم الإبداع.

وكل عمل يحمل في طياته شيئاً من الجمال بنسب متفاوتة، وكل أنامل لها ميزتها عن الأخرى، والجادة من تبحث عن بصمة تميزها عن الأخرى، الفن عدوى، فحين تتجاور الأعمال في أي معرض جماعي، كل عمل يساند الآخر ويدعمه إيجاباً كباقة وردود متنوعة في دوحة أو خميلة، تلك الأعمال الفنية أسعدت زوار معرض روازن، أعمال تثري الرؤية البصرية وتحرض على التأمل حول عوالمها الفنية، معرض تتجاذب فيه العيون بتحاور خلاق وسعي لتوطيد ثقافة الاقتناء، وسط تعبيرات صادقة باسم الجمال من لدن أرواح جميلة، ونفوس متفائلة مقبلة على الحياة في أبهى صورها.

شكراً من القلب لمفتتح المعرض الأستاذ أمين الزهيري، رئيس جمعية القطيف الأهلية، وكل أعضاء مجلس الإدارة، الذي يولون عناية متحمسة لنادي الفنون، ويعتبرونه واجهة قوية من مشاريع الجمعية الذي يجب استثماره مجتمعياً على نطاق واسع، والشكر موصول لرئيس جماعة الفن التشكيلي د. كميل المصلي وكل الفريق العامل معه من مجلس الإدارة إلى الأعضاء المتطوعين والمنظمين، وكل المشاركين والمشاركات في معرض روازن 2.

تحية حب لجماعة الفن التشكيلي بالقطيف التي تملك خطة طموحة على مدار العام القادم 2022، والصور القادمة غير المعلنة حافلة بكل ما هو جديد، مع بداية جادة بعد العودة الميمونة باستئناف الأنشطة بتوق أخاد، عودة الألق لصالة نادي الفنون بمسماها الجديد، حيث سارعت الأنفس المحبة باسم الجماعة لتكون هي المبادرة والسباقة والمتحركة أولاً بأول لإقامة الفعاليات واحتضان الأنشطة، من ورش وجلسات فنية على مستوى الأعضاء ومعارض جماعية مفتوحة للعامة.

نشاط يولد نشاطاً ومعرض وراء معرض، من احتفالية باليوم الوطني (هي لنا دار) مروراً بالمعرض الجماعي 19 (أساسي)، وهذه الأيام معرض “روازن” في دورته الثانية، الذي ضم حشداً متنوعاً من داخل المحافظة ومناطق أخرى وأسماء من خارج الوطن، إقبال ووجهة فنية ستحقق آمال وطموحات الجميع طالما التفاني والعزم يتملكان القائمين على سير الجماعة بحماس متقد، وتفانٍ لا محدود.

أنتم عناوين آسرة أيها الفنانون والفنانات المشاركون في كل معارض الجماعة، فعلكم ثقافي ونهضتكم ألق تشكيلي على امتداد مساحة ربوع الوطن، بسمعة عالية عبقة بالحب والإخلاص.



error: المحتوي محمي