شيخ عباس وصناعة المقدمات السليمة

الحديث عن العلامة الشيخ عباس المحروس، قدس الله نفسه، بصفته راثياً لآل محمد وذا صوت شجي وامتطى المنبر خمسين عاماً، إلى غير ذلك، حديث تناوله الخطباء والشعراء بما لا مزيد عليه.

وثمة جانب أظن أنه لم يلق ما يستحقه من عناية، وهو ما أسميه صناعة المقدمات السليمة للتفكير، ذلك أنه أدرك كما أعتقد أن الناس في أغلبهم منطقيين ويحسنون التفكير، واختلافهم في النتائج لم يكن إلا لاختلاف المقدمات، ولو لم تختلف لربما أصبحوا جميعاً يعزون في حسينية النهاش وأخواتها، لذا فإنه عمل كثيراً على صناعة المقدمات السليمة التي يكفي بصناعتها أن تعاد صياغة شخصية الإنسان وتغير من سلوكه وطبعه.

المنحرفون يفعلون كذا دون أن يكترثوا بالشرع، المنحرفات تفعلن كذا، بوجوه متجهمة ملأتها الغيرة على المذهب يتألم بعض المتدينين على حال غيرهم دون أن يعرفوا أن بعض هؤلاء من أسر لم تمنحهم تربية ولا ظروفاً إيمانية تجعلهم أفضل مما هم عليه، في حين أن هذا المتدين ربما صنيعة أب مؤمن لم ينقطع ولو لفريضة واحدة عن المسجد، ولم يخلع السواد في كل عام إلا في التاسع من ربيع، وأمه تخرج من حسينية لتدخل أخرى دون كلل أو ملل، دفتر الخمس عُمل له (وهو في القماط) ثم ماذا؟!

ثم يكفي الولد أن يبدأ الخطيب بالبيت (لا يذبح الكبش) حتى يبكي بكاء الفاقدين على سيده ومولاه، ولو أن هكذا شخص لم يلق ما لقيه من ظروف إيمانية لربما كان كمثل من ينتقدهم ليل نهار، ولأصبح شعره (كاريه) كمن يتجهم في وجوههم، وبنطلونه اللي يطلع به (إمَّشَّق) وهو حينها وبلا شك سيكون يتيماً، إنه اليتيم المشتت الذي يحتاج لمن يأخذ بعقله ويرشده لمقدمات التفكير السليمة التي تصنع منه متديناً حقيقياً، حينذاك يمكنه تماماً أن يكتفي بمنبر الشيخ عباس لتجده بعد أشهر قليلة يعزي في النهاش، ويزور عاشوراء بخشوع، ويوزع عيش الحسين في الفريق، وينافح ويدافع عن حريم آل محمد بكل ما أوتي من قوة.

إنه المنبر الذي يمكن له أن يجعل من الأيتام المشتتين متدينين وأصحاب ذائقة إيمانية عالية، (وين جاسم وين الأكبر وين عباس الغضنفر)، هكذا كان يلطم على الأطوار القديمة التي توارثها الأجيال خلفاً عن سلف، لم يبتكر أطواراً جديدة في النعي بل حافظ على الآثار دون تغيير، حتى أصبح مجلسه مهوى المتعطشين للقراءة الحسينية الحقيقية، (أنشدني كما تنشدون).

بعد انقضاء صلاة العشائين من كل عام خلف شيخنا المعظم، نذهب زرافات للاستماع للمجلس الحسيني في عاشوراء لدى الشيخ عباس، هذا لأننا متأكدون أننا حينما نفعل ذلك فإننا سنعزي محمداً وآل محمد، سنذرف دموعاً قد لا يثقل موازين أعمالنا سواها، سنتعرض لرحمات الله ومننه في مجلسه الشجي، أما الآن فإلى من سنذهب يا ترى؟! لقد ذهب الخطيب الألمعي، لقد ذهب المربي، لقد ذهب الشيخ عباس، إنا لله وإنا إليه راجعون.



error: المحتوي محمي