يغدو الجميلُ بقبحِ صورةٍ عند تجردهِ من الخلقِ الحسنِ، لا يتعدى ما بهِ من قالبٍ مادي صرفٍ مكانهُ ووقتهُ ينتهي أثرهُ بزوالهِ وغيابهِ، وتزولُ المتعةُ فيهِ بمجردِ انقضائها.
سنتعرضُ لخصالٍ عندما تلازمُ صاحبها فهي حافظةُ لهُ وتترك عليهِ خيراً في دنياهُ وآخرتهُ، سنطرق أهم هذه الخصال، وهي “العفة” من حيث دلالتها اللغوية والاصطلاحية وأنواعها وعلاقتها بالحياء ودلالتها وعظيم مكانتها ومنزلتها في القرآن الكريم وما ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام، ونختم الحديث بالعوامل التي تسهم في تقويتها وترسيخها.
فالعفة عند أهل اللغة هي الكف عما لا يحل ويجمل، أو هي اعتدال القوة الشهوية في كل شيء مـن غير ميل إلى الإفراط والتفريط.
أما ماهيتها الاصطلاحية، فهي ضبط النفس عن الشـهوات وقصرها على الاكتفـاء بما يحفظ الجسد ويحفظ صحته فقط واجتناب السَّرف في جميعِ الملذات وقصد الاعتدال.
أما أنواعها فمتعددة فتكون في:
1- عفة النفـس: والتي تحصل بتزكيتها وتطهرها من الرذائل، حيــث قال تعالى: {﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس 9-10].
2- عفةُ الجوارحِ وتحصل بتسخيرها في ما يرضي الله تعالى ووقايتها مما يغضبه، فاليد تكون بأن لا يمدها إلى المحرمات، وعفةُ الرجل والمرأة بأن لا يمشيان بها إلى الباطل والمحرمات.
وعفة اللسان بأن لا ينطق بما لا يرضي الله تعالى، وعفة السمع بعدم الاستماع للمحرمات، وعفة البصر بغضه عن المحارم.
3- وهناك عفة البطن وتحصـل بحفظهـا مـن الحرام، فـلا يأكل ما حرم الله ولا يرتكـب الشبهات.
4- عفة الفـرج: عـدم الاسـتمتاع بـه في الحرام وحفظه كما أمــره تعالى بقولــه: ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) [النور:31]
أما علاقة العفة بالحياء فيكون في كون الحياء أساس العفـة وهي ثمرتـه، فهـو أمر مركوز في النفس يتطور وينمو بزيادة الإيمان والتقوى اللذين يلائمنا فطرة الإنسان وينميها مكتسباتها، ومنها الحياء، والعفة – بعد ذلك – الأثر العملي البارز للحياء، والذي يظهر على الجوانح والجوارح فيكون الثمر الطيـب الـذي يخــرج مــن شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلهـا كل حين بإذن ربها.
لقد ذكرت العفة بصور متعددة في كتاب الله المجيد وفي عدة مواضع:
أولاً: جــاءت العفــة في قســم مــن تلــك الآيات في مورد التعفف والترفع عما لا يملكه الإنسان من أموال الغير، وهذا ما أشارت إلية الآية الكريمة: ((لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)) [ 273 البقرة ].
ثانيًا: وذُكرت في مورد التسامي عن الغرائز والرغبات، قال تعالى جل شأنه: ((وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ …. )) [ النور 33 ].
ومما يجب ذكره في هذا السياق أن الحجاب والعفة والحياء لا تحمي المرأة مـن الأخطار والانتهاكات الخارجية فقط، بل توفر لها مناعة دائمة وضمانة عن التأثر ضد شهوات النفس وتشكل حجابًا واقيًا ضد وسوس الشيطان وإغوائه وحبائله، حيث تغلق أبواب تلك الشرور، وتجعل المرأة في مأمن من معصية الله مـن جميع النواحي، ومن هذه النواحي:
1- البصر؛ إذ إن العين تـزني وزنـا العين النظر إلى ما حرم الله، فعن الصادق أو الباقر عليهــما الســلام قـال: “مـا مـن أحـد إلا وهو يصيب حظًا مـن الزنـا، فزنـا العينين النظر، وزنــا الفــم القبــل، وزنــا اليدين اللمــس، صدق الفرج ذلك أم كذب”، فلكل من هذه الممارسات مراتـب للزنـا، والمرتبـة الأشـد هـي التـي تكـون في الفـرج، وهـذا الحديـث مـن الأحاديـث الرائعـة التـي توسـع معنـى الزنـا وتجعلـه شاملاً لكل مقدماتـه ولا يقتـصر على المعنى المعروف منه.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله قوله: “النظـرة سـهم مسـموم مـن سهام إبليس، فمن تركها خوفًا مـن الله أعطاه إيمانًا يجد حلاوته في قلبه”.
2- السمع؛ إذ إن الأذن تـزني وزنـا الأُذن السماع إلى مـا حـرم الله، وهـذا ممـا يغفـل عنـه كثير مـن النـاس في مجتمعنا هذه الأيام – للأسـف الشـديد- فـإن مـن جملـة المحرمــات الحديــث بين الشــباب والفتيــات في الجامعــات وأماكــن العمــل المختلطــة ومــا ينجــر إليــه مــن المفاكهــة والمضاحكـة والقـول بالباطـل، فإنـه كلـه مـن مصاديـق زنـا السمع.
3-اللسان؛ فتحفظ المـرأة نفسها مـن الخوض في الحديث الباطـل مع الرجال لأنه ورد في الحديث عـن الصادق، عن آبائه عن رسول الله في حديث المناهي – قـال: “ونهـى أن تتكلـم المـرأة عند غير زوجهـا وغير ذي محـرم منهـا أكثر مـن خمس كلـمات ممـا لابـد لهـا منـه”؛ أي الحديث يكون عند الحاجة وبمقدار الضرورة ولا يكـون بصـوت خاضـع كما في قوله تعالى: ((فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا)) [الأحزاب 31 ]، حيـث إن الخضـوع في الصوت يثير شـهوة الطرف الآخر وإن لم يكن عن قصد، ولذا ورد النهي من النبي (ص) في الحديث عما زاد عن مقـدار الضرورة، صونًا للمجتمـع مـن إثارة كوامن الفساد وتهييج الغرائز التي من المفترض أن يكون لها إطار خاص تتحرك فيه وهو بيت الزوجية فقط.
فما نجده في مجتمعاتنا من الحديث بالباطل بـن النساء والرجال، وكذلك ما شاع في هذه الأيام من مكائد شيطانية بعناوين براقة مزيفة مثل الدردشة والتواصل الاجتماعي وغيرها مما تم ابتداعه لإفساد مجتمعاتنا، كله مـن حبائل الشـيطان وخدعه ومزالقه التي ينبغي للمؤمن عدم السير فيها وتجنبها.
ومما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: “أكثر مـا تلج به أمتي النار الأجوفان: البطن والفرح”، ومما ورد عنه أيضًا صلى الله عليه وآله: “ثلاث أخافهن بعدي على أمتي: الضلالـة بعـد المعرفـة، ومضـلات الفتـن، وشـهوة البطـن والفـرج”.
وعن أنس رضي الله عنه قال: “قال رسـول الله صلى الله عليه وآله: (من ضمن لي اثنتين ضمنـت لـه على الله الجنـة، مـن ضمـن لي مـا بين لحييه وما بين رجليه ضمنت له على الله الجنـة”، فهذا الحديـث يـدل على أن معظـم الذنـوب تـأتي من اللسان والفــرج، فمــن استطاع أن يضمن سلامة كل منهما عن الحرام فيكون قد ضمن له مقعدًا في الجنة.
ومما ورد عن أمير المؤمنين سلام الله عليه أنه قال: “أفضل العبادة عفة البطن والفرج”.
وأخيرًا دعونا نتناول العوامل التي تسهم في تقويتها وترسيخها، فهي تكون في غض البصر وحفظ الفرج وذلك في قوله عز من قائل : ((قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)) [ النور 30 ].
وكذلك يكون في عدم إبداء الزينة وارتداء الحجاب بشكل كامل وعدم ضرب الأرجل لافتين الجنس الآخر والزواج المبكر.
نسأل الباري جل شأنه أن يحرسنا ويحرسكم بعينه التي لا تنام ويجعلنا وإياكم من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه.