لا تکن وَسواسیًّا ولا رَهبانیًّا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6).

الوَسواس حالة نفسیة یصاب بها کثیر من الناس، فما هو الوَسواس وکیف یصاب به الإنسان؟

بدایة نقتبس هذا التعریف؛ يعرّف الوَسواس في معاجم اللغة العربية بأنه مصدر خماسي مشتق من الفعل الرباعي وَسْوَسَ بمعنى حدّث بإلحاح، والوَسواس اصطلاحاً هو حديث النفس، وقد يصبح مرضاً قهرياً.

بعد هذا نقول إن الوَسواس هو الهَوَس الزائد لَدي فئة من الناس، وهو ناتج عن عدم التركيز وتشتت خلايا المخ، وهو يبدأ بوسوسة شيطانية من الذي سمي في القرآن الكريم الوَسواس الخناس وهو الشیطان الرجیم، فيبدأ بالوسوسة ويختفي ويستمر الشخص بالوسوسة لنفسه والتشكيك في حياته كلها.

فما هي الأسباب؟

ذکر الاختصاصيون عدة أسباب نشیر إليها باختصار:
1/ أسباب وراثية.
2/مناعية.
3/سلوكية.
4/عصبية.

وأضاف الباحثون أسباباً أخرى؛ كالضغوط البيئية والاجتماعية،و بارتجاج الدماغ ومحدودية التفكير، هذه الأسباب تجعل الشخص يشك في أمور دينه ولا يقتنع بصحة عباداته من أول مرة بل يعيدها مراراً وتكراراً، فقد يشك في وضوٸه وتكبيره ورکوعه وسجوده فيعيدها عدة مرات ويرهق نفسَه ومَن حَوله، ويتكرر هذا كل يوم في حياته ولا يقتنع بالنصح ولا يثق في من يقول له إن وضوءه صحيح وصلاتَه صحيحه، لأن نفسيَّتَه تشكك في كل شيء حتی العلماء قد یعتبرُهم لا يفهمون ولا یأخذ برأیهم.

وإذا استسلم الإنسان لهذه الوساوس تزداد يوماً بعد يوم إلى أن تصبح كل أمور حياته عرضة للتشكيك، فلا يدري هل حاسب البائع أم لا فيعود ليسأله، ولا يتذكر هل دفع الدين الذي عليه أم لا، حتى باب بيته أو منشأته يرجع إليه بعد مشوار طويل ليتأكد هل أقفله أم لا، بل حتى السلام على من يلاقي يشك هل سلم عليهم أم لا.

وهذ يؤدي إلى المرض النفسي والجسدي، وقد يلجأ صاحبه للعلاج والاستشارات الطبية والجلسات النفسية والأدوية العقارية، فلماذا يسمح الشخص لنفسه بأن يصل إلى هذه المرحلة؟

لماذا تستسلم للهواجس والوساوس؟ لماذا تقبل أنّ تکون وَسواسیاً! لماذا لا تكون کالآخرین فی عباداتهم وتصرفاتهم؟ لماذا لا تكون قوياً وتقاوم هذه الترددات والتشكيكات؟ لماذا لا تثق فی الآخرین حین یطمٸنونك بصحة ما أنت عليه؟

قال رسول الله ص: “لا تعودوا الخبيث من أنفسكم بنقض الصلاة فتطمعوه، فإن الشيطان خبيث يعتاد لما عود، فليمض أحدكم في الوهم، ولا يكثرن نقض الصلاة، فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك”.

إذاً خُذ قرارَك بیدك، تغلَّب علی وساوسك وترددك فدِینُ الله یُسر ولیس بِعُسر، قال تعالی: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، فلماذا یخفِّفُ الله علینا ونحن نشدد علی أنفسنا؟ یصف لنا طريقاً سهلاً ونحن نسلك طریقاً وَعراً.

حتی الرهبنة مرفوضة فی الإسلام لحدیث: “لا رهبانية في الإسلام”، وهي أن یسخِّر الإنسان نفسه للعبادة لیل نهار وینقطع عن العالم أجمع ویهجر أهله وأقرباءَه ویترك کسب رزقه، ویعیش مهموماً حزیناً رثَّا أشعثاً أغبراً، فهذه العادة مذمومة ومرفوضة، فالإنسان يتكون من روح وجسد، وعليه أن يوازن بين غذاءيهما،
فإذا طغى غذاء الجسد على غذاء الروح اختل التوازن، وإذا طغى غذاء الروح على غذاء الجسد مالت الكفة واضطربت الحیاة، فالموازنة ضرورية لكل شيء حتی تنضبط الأمور.

ولقد وبَّخ رسول الله (ص) عاصم بن زیاد حین شکاه أخوه بسبب انهماکه فی العبادة لیل نهار قائلاً له: “يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ، لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ، أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ؟ أَتَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَ هُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا؟ أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ”.

وقال تعالی: (وَرَهْبَانِيَّةً ٱبْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَٰهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ٱبْتِغَآءَ رِضْوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ).

صحیح مطلوب منا أن نهتم بعباداتنا ونتقرَّب إلى الله سبحانه وتعالی في صلواتنا وخلواتنا وصیامنا وقیامنا، لکن هذا لا یعنی أن نحمّل أنفسنا فوق طاقتنا، والله رخّص لنا الإفطار في شهر رمضان وقصر الصلاة وقت السفر والمرض رحمة بنا.

قال تعالی: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

ولا يحق للإنسان أن يضيِّق على نفسه ويجلب لها الضرر (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

ولا یجوز التحلیل والتحریم حسب مبتغی الناس، حتی النبي محمد صلی الله علیه وآله وسلم نهاه الله سبحانه وتعالی عن التحریم علی نفسه بقوله تعالی: (يا أيُّها النبيُّ لم تُحَرِّم مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْواجِكَ)، فهل یحق لنا أنّ نحلل ونحرم بأهواٸنا ورغباتنا؟

الرهبانية تعني اعتزال الناس وهجران الأهل والأقرباء وتحريم ما أحل الله والاكتفاء بالعبادة، نَرى بعض الناس يحرِّمون على أنفسهم الزواج ولبس الجديد والأكل الطيب، ويمتنعون عن الضحك ويبتعدون عن معاشرة الناس ومزاورتهم بمسمّى العبادة والزهد في الحياة الدنيا ورغبة في التقرب لله سبحانه وتعالى.

قال نبينا الكريم (ص): “لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم فى الصوامع والديار”.

ووبّخ النبي (ص) الثلاثة الذين قام أحدهم يصلي الليل كله وآخر يصوم الدهر كله وثالث يعتزل النساء، قائلاً لهم: “أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”.

فلنعتدل في ديننا ولنكن وسطيِّين في تعاملاتنا، لا إفراط ولا تفريط، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

وخلاصة بحثنا؛ لا تكن وسواسيًّا ولا رهبانيًّا، لا تُعقَّد أمور حياتك، ولاتكن غافلاً عن الحقيقة والعقلانية، ارفض دائماً أن تكون في غفلة من أمرك فتمارس الدور الخطأ ويطوف بك الزمان وفي نهاية العمر تكتشف أنك ضللت الطریق، قال تعالى: (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) صدق الله العلي العظيم.

أرجو أن تعم الفائدة للجمیع، فنهجر وَسواسَنا ونبتعد عن رهبانيّتنا، ونكون أشخاصاً ملتزمين منضبطين لا مغالين ولا مشككين.



error: المحتوي محمي