هموم شاعر حديث

يمسك بيديه الريشة؛ كي يكتب، وإذا بينه وبين الكلمات مسافات ضوئية، تُقدّر بملايين الأميال، يعاود الكرة، بعد حين، ولا ينجح إلا في دك حصون كلمتين، أو ثلاث، وبعد مكابدة مريرة، وانهيار أصاب الروح، وتوحش للمشاعر، وانقلاب للسُّحنَة؛ ها هو يكتب بيته الأول، من قصيدته التي فكّر بها.

هذا حال الشاعر الحديث، إذ يُوضع إزاء مجموعة هائلة من الضغوطات، تجعله يبحث عن ملجأ، دون أن يعي، فلا يقترب من القصيدة؛ إلا ليهرب من الحياة، وإذا بالمفاجأة في انتظاره؛ حيث الحياة تلاحقه، داخل القصيدة، وتنتزع منه الكلمات، ثم تستبدلها بأخرى، تنسجم مع ذاته، وتكوينه، وتراثه.

أولى الضغوطات، وما يسبب القلق العميق لدى الشاعر؛ بحثه عن ذاته، وهويته، وعلامته المميزة؛ التي سوف يُعرف بها عند أقرانه، وبين جمهوره، هنا يشاهِد أمامه وخلفه كمًّا هائلًا من القصائد، استوفت بموضوعاتها جميع شؤون الحياة، حينذاك؛ يحاول الانفلات من ربقة التقليد، وإنتاج لغة خاصة به؛ لغة لا تشوبها شائبة، لغة الشاعر الحديث.

اللغة لا تستقيم لك، أيها الشاعر، وستظل تخاتلك أبد الآبدين، وما لم تدفع مهرَها، فلا زواج بينكما، ومَهر اللغة؛ قبولُ كلماتها، ومعانيها، وإجادة نحوها، وصرفها، واستيعاب تراثها، وتاريخها، والأهم من ذلك؛ أن تجيد الحفاظ على أنفاسك، فتتعلم الوقوف، حيث يجب أن تقف، وتتعلم الانطلاق في الحديث، حينما يحين الوقت، وليس لهذا من معنى؛ سوى إجادة الوزن والقافية، واستعمال البلاغة والمناسبة.

ها أنت أمام لغة جديدة ومختلفة، وبينك وبين القصائد القديمة والحديثة علاقة وطيدة، وتعجز عن المرور إلى ما هو أبعد، وحين تبحث عن السبب، لا تجد سوى خوفك الشديد، وخشيتك من فقدان المعنى، وابتعاد اللفظة؛ حيث لكل مفردة معنى ملاصق، وكلّما استعملتها؛ استهلكتها، فلم تعد صالحة للمزيد، وعليك التفكير بغيرها، فإذا صادف أنك صُغت بيتك، ووجدت المعنى نشازًا، ولا يستقيم، أو وجدت المفردة خائنة، ولا تتوافق مع جاراتها، فلتعلم أنك فشلت في الامتحان، وعليك معاودة البحث عن حل.

تنتقل من بيت إلى بيت، ومن شطر إلى شطر، ولا تعير انتباهًا لصوت المتلقي بداخلك، وتنكسر القصيدة عند ساحل البحر، فلا تلتفت، وتكمل، وتأتيك من ثم بثياب رثة لا تليق حينها؛ تستفيق، وتشاهدها، ولا تقبل بوجودها، وتصب جام غضبك على ذاتك، فتنفخ النار على القرطاس، وتحرق القصيدة، وأصابع كاتبها، وتبحث بعدها عن قصيدة أخرى، أكثر انسيابًا، وأجمل مفردة، وأدق معنى، ولا تجد إلا بمشقة، لا توصف.

وحين تعاود الكرّة، وتلقي بأحمالك وراء ظهرك، وتمسك الريشة؛ كي تكتب، يعاودك الحنين إلى كبرياء القصيدة القديمة؛ القصيدة الأم، التي نبع منها الشعر، وانطلق يجوب الآفاق، إذ ذاك؛ ينسلب لبُّك، ويغيب بصرك، وتفقد القدرة على رؤية الحقيقة ماثلة، أمام عينيك، فالأم الرؤوم؛ فُقدت، وانصرفت إلى غير رجعة، وتم دفنها في مقبرة الشعر، وأُهيل التراب فوقها، أما البواكي؛ فأنت وقبيلتك. أيها الشاعر الحديث: اُخرج من عباءتك، وامسح أحزانك، وأحسن التصرف، وأنت تتلقى العزاء؛ إذ لا بد لكل ميت، من مجلس عزاء؛ ليذهب من الذاكرة.

تنهار ولا تستطيع الوقوف، حيث قصيدتك؛ لمّا تكتمل بعد، وها أنت تنتحب وتجود بمقلتيك، وتهرب من عالمك الواطئ، إلى عالم أرفع، دون أن يحالفك النجاح، فتمر بك المصاعب، وتغتال أحلامك؛ كلماتُ المحيطين، وتجتهد أكثر؛ لتخرج من كبوتك، وليس أمامك للنصر إلا اجتراح المعجزات. هاهنا تدرك ضعفك، وسقوطك المريع، وعدم قدرتك على التطور؛ فترمي الريشة، وتمزق ما كتبتَ، ولا تلوي على شيء.

يتقدم، ويتلعثم، ويتقدم ثانية، ويتلعثم، وفي المرة الثالثة؛ يستقيم اللسان، وينطلق الشعر؛ كالبحر الهائج، لا يوقفه شيء، ويصل مداه أصقاع الأرض القصية؛ حيث الروح تنبعث، مرة بعد مرة؛ كطائر الفينيق، فيظل يكتب قصيدة، وراء أخرى، ولا يتوقف؛ إلا ليموت، فهنيئًا لك أيها الشاعر الحديث، حين تموت!



error: المحتوي محمي