لا أتصوّر أن أديبًا أو مفكرًا وهبه الله أي حظ من الأدب أو الفكر، حيّد مواهبه تلك، أو سخّرها لخدمة مواهب وإنتاجات الآخرين، مثلما فعل الأديب والمفكر والمؤرخ الثقافي والأدبي والإعلامي الأستاذ محمد رضا نصر الله، رغم كل ما يمتلكه هذا الرجل من ثراء معرفي وأدبي وإبداعي يضاهي كل تلك القامات اللامعة التي دوّن لها، وحاورها، أو ناقش أفكارها ومنجزاتها في برامجه وحواراته المختلفة على مدى ما يربو على أربعة عقود.
محمد رضا نصر الله ليس مجرد إعلامي أو محرر ثقافي دفعته وظيفته إلى اللقاء بعمالقة الفكر والأدب والثقافة والسياسة عربًا وأجانب ليحاورهم، أو ليظفر منهم بسبق ثقافي أو إعلامي، وإنما هو في واقع الأمر الأديب والمفكر الذي تجاوز ذاته، وتجاوز أحاسيس الغِيرة الأدبية، ليذعن لنداء ضميره الثقافي، جهة تبني حمل تلك الرسالة الرائدة في خدمة الفكر والأدب من منطلق حوار الأنداد، لا حوار المستفتي والمفتي، وهو الذي غالبًا ما تنتهي عنده رسالة الصحافة، فكانت لقاءاته مع كافة الأدباء والمفكرين والساسة والفنانين في كل برامجه باذخة الثراء، لأنه حين يطرح أسئلته لا يطرحها من باب الاستفهام، أو فك الاستيهام، وإنما من باب الدخول من إجاباتها إلى أسئلة أكثر وأكثر عمقًا، لذلك جاءتْ برامجه بمثابة حزم من “الأشعة السينية” العابرة للحواجز والموانع، وصولًا إلى أعماق ضيوفه، واستخراج حتى ما لم يفكروا هم بعد بإخراجه، لأنه يحاورهم بذات الأدوات، أدوات الفكر والأدب، وليس أدوات الصحافة والإعلام، بكيف، ولماذا، ومتى، بل لأنه يجادلهم بمنطق المفكر والفيلسوف الذي لملم في ذاكرته أطراف المشهد “ثقافيًا، وأدبيًا، وفكريًا”، واستوعبه بكل إشكالاته، وبكل خوافيه وقوادمه، ما أهّله لأن يقف أمامهم في منصة المحاور النابه موقف الندّ للندّ.
ذلك الذي يعبّ معهم من نفس الإناء، ويستطعم ما استطعموه، وحتى ما حاولوا أن يخففوا ملوحته، لأنه يشاركهم ذات المائدة فكرًا، وفلسفةً، وأدبًا، مما يجعله يقرأ ما وراء كلماتهم، وما راغتْ عنه ألسنتهم. فجاءتْ حواراته ولقاءاته بمذاق مختلف، لا يشبه أي وجبة ثقافية قدّمتها ساحة الإعلام الثقافي والأدبي العربي من قبله، حيث كانت تتآكل وتتلاشى “حضورية” المحاور أمام رمزية الضيف، فيبدو اللقاء، وكأنه من طرف واحد، وبما لا يتجاوز تلك الخدمات التي يقدمها الكتاب. لذلك جاء محمد رضا نصر الله بثقافته الموسوعية ليقلب المعادلة، وليفرض رمزيته كمحاور حذو المنكب بالمنكب مع رمزية الضيف، وليقدّم في برامجه منذ اللحظة الأولى، ومنذ (الكلمة تدق ساعة) مع الراحل المبدع سعد الفريح مشروعه الثقافي والفكري والأدبي الخاص، والذي استطاع أن يستنطق به ما لم يكن قابلًا من قبله للاستنطاق، وأن يستميل به دقات قلوبنا كمشاهدين، ويجبرها على الإذعان والإنصات لفخامة المحتوى، ما دفع الكثيرين إلى تعشّق الأدب والثقافة، عبر تلك البرامج التي قدّم من خلالها ما يمكن أن نسميه دون تحفظ “حوار الأقطاب”، حتى وهو يلتقي كل تلك الأسماء الكبيرة والرنّانة، التي لا تملك حين سماع أسمائهم، سوى أن تعدّل جلستك !، لكنه وهو الممتلئ ثقافةً ووعيًا وثقةً، لم يخش هيبة تلك الأسماء الضخمة، رغم يفاعة سنه حين بدأ مشروعه، وهو يلتقي قامات نخبة النخبة من الساسة والمفكرين والأدباء، لأنه يثق بهيبة ما يحمله من رصيد ثقافي، كان من الممكن لو فرّغ نفسه لنفسه، وانصاع لنداء أنانية الذات أن يضاهيهم بإنتاجه، إن لم يتفوّق على الكثيرين منهم، لكنه وهو الذي تنبه إلى أن الصحافة لا يمكنها أن تؤرخ بعمق للأدب والفكر فيما هو بين ذات الأديب والمفكر، وبين منجزهما الأدبي والفكري، أعني تلك المساحة الفارغة، التي تدفعك حين تقرأ أحد كتبهم أن تتمنى لو تأخذ أسئلتك إليهم، لأن الكتاب لا يملك سوى لسان واحد، وهو لسان (ماضوي)، بله لسان اللحظة التي كتب فيها، لتبقى تلك الأسئلة معلقة إلى ما شاء الله، ليأتي هذا الأديب البارع، ويلتقط كل تلك الأسئلة التي تفترضها أذهان القراء والمتابعين إلى مضانها، ويضيف إليها ما يتمنى كل قارئ لو كان هو سؤاله التليد، لينبش عن إجابات مقنعة لها، كل ذلك بلغة واثقة وعميقة وحصيفة، ملفوفة بكل ألوان التهذيب التي تحفظ للضيف مقامه ومكانته، ولكن دون أن تفرّط في البحث عن الوصول للحقيقة أو تداهن على حسابها، وبتلك الثيمة الصوتية المستولدة من لقاء بساتين القطيف اليانعة مع أمواج الخليج وتباريح الصيادين، وهي ثيمةٌ طالما حملتْ صياغات النصر الله على نول السهل الممتنع، حتى إنه يستطيع أن يُسمع بها ضيوفه أصعب الأسئلة وأقساها، دون أن يستفزّهم أو يخرجهم عن أطوارهم، لأنه يعرف كيف “يدوزن” لغته لتحمل أسئلته مهما بلغتْ حدتها بذات اللباقة التي غلفتْ كل سلوكات حياته وعلاقاته بالآخرين.
ومما يضيف المزيد من الميز على مشروع هذا الأديب الفذ أنه استوعب الطيف الثقافي بجميع مفرداته، وطبقاته، ومدارسه، وتوجهاته، ومذاهبه، وطوائفه، وأيديولوجياته، فالتقى الساسة من مستوى رؤساء دول، ورؤساء حكومات، ووزراء، على اعتبار أن الفعل السياسي هو في النهاية جنس ثقافي، ولابد بالتالي أن يتماس مع الفكر والأدب والفنون بأشكالها، فيؤثّر بها، وتؤثّر فيه.
مثلما التقى مع جميع أطياف الفكر على مختلف توجهاتهم من محافظين وليبراليين وماركسيين ورأسماليين وبعثيين وقوميين، ومع رجال الدين ومعممين من كل الطوائف، إلى جانب الأدباء الكبار من روائيين وشعراء وقصاصين، والفنانين من المسرحيين والتشكيليين والمغنين والممثلين والمخرجين وغيرهم وغيرهم. وهذا ما أثرى هذا المشروع الاستثنائي، ومنحه صفة التفرد والشمولية، لأنه قارب كل المسافات ما بين هذه الأطياف ليجمعها تحت العنوان الثقافي الذي لمّ شتاتها وقدمها للمشاهد والمتابع العربي كواحدة من أعز وأهم وأغلى الوجبات التي ترسم بموضوعية صورة مشهدنا الثقافي العربي، وموقعنا في إطار الحضارة الإنسانية الشاملة.
وأعتقد أنه لو لم يتصدّ محمد رضا نصر الله لهذا الدور الفريد، الذي لم يسبقه إليه غيره – من حيث حرفية الإعداد وكفاءة التقديم – في خدمة الأدب والفكر والثقافة، لما استطاع أحد سواه أن يسدّ هذه الثغرة بذات الكفاءة، التي ملأها هو وحده بعدد من البرامج الحوارية، كاملة الدسم، أذكر منها بالإضافة لما سبق برنامج (هذا هو) و(على مسؤوليتي) و(وجهًا لوجه) و(حدث وحوار) و(مواجهة مع العصر) و(هكذا تكلموا) و(مع المشاهير) و(ستون دقيقة سياسية) و(ما بين أيديهم) و(خارج الأقواس)، حيث استحضر في تلك البرامج أهم الرموز، وقدمها للمشاهد العربي، وطرح عبرها ما يستحق أن تدونه كتب أخرى تجاور منجزاتهم، وتمكّن بها من تدوين تاريخ الأدب والفكر في الوطن العربي تحديدًا، بإلقاء المزيد من الأضواء على تلك المساحات المعتمة منه، وسجّل كل إجابات أسئلة ما وراء التأليف لتكون في متناول كل الباحثين والمهتمين بالأدب والفكر وقضايا الثقافة. هذا كله فضلًا عن نتاجه الصحفي والأدبي المكتوب في الصحافة المحلية والعربية.
لقد قدّم هذا الرجل الكبير بمنجزه الفريد، والنادر، لوطنه، ولعروبته، ولثقافتها الخدمة الناقصة، والتي كان من الممكن أن تظل ناقصة إلى الأبد، بتلك المساحة غير المرصوفة ما بين الكاتب والكتاب من جهة والقارئ من الجهة الأخرى، حينما عبّد الطريق، وأقام بحواراته ولقاءاته جسورًا سالكة بين الطرفين، فردم الهوة في بعضها من خلال إجابات ضيوفه على ما أثاره من التساؤلات، أو كشف في بعضها الآخر على الأقل لمتابعيه ما استشكل عليهم من أفكار ضيوفه، أو – وهذا هو الأهمّ – أشعل في أذهانهم المزيد من علامات الاستفهام، وهذا هو دور المثقف الحقيقي.
بقي أن أقول: إن ما يستحقه محمد رضا نصر الله بعد هذه المجالدة الفخمة في سبيل خدمة الفكر والأدب والثقافة والتراث العربي، وهذا النزوع الفاخر والانزياح من خدمة الذات إلى خدمة المشهد الثقافي والفكري والأدبي العربي بكل إخلاص، بل بعد هذا النجاح منقطع النظير في كل برامجه وحواراته من تحويل العمل الثقافي والفكري من عمل نخبوي لا يتابعه سوى من أدركتهم الحرفة، إلى أعمال جماهيرية تحظى بمتابعات واسعة من مختلف أطياف المجتمع، لذلك ليس أقل من أن يحظى مشروعه المدوّن على أشرطة الفيديو أن يجد من يتممه “مؤسسيًا” بحفظه رقميًا وورقيًا، وإعادة تقديمه للساحة عبر أدوات التواصل الحديثة، وتكريم هذا (الرجل/ المؤسسة) محليًا وعربيًا لأن ما قدمه لا يخصنا وحدنا، وإنما يخص الثقافة العربية قاطبة.