منذ زمن وأنا أشرب القهوة وهي تبدع وتعيد تشكيل كلماتي ويرتدي معها الصباح أجمل وشاح، لكنها لم تستطع أن تُغيّر قناعاتي بأن من المُخزي أن يعيش الأسد بقلب أرنب، وأن يُهزم المرء في قُعر داره بقرار يتخذه مبتعداً فيه عن المنطق ويغيب العقل عن فضائه.
مما لا شك فيه أن لكل منا قراراً يُترجم قناعته في أمر ما، وقد يكون قراري مختلفاً عن قرارك، ولكن تجمعنا الخطوط العامة في سالف المكان والزمان، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (سورة هود: 118).
فلا يعقل أن يُترك مراهق فريسة للسهر، ويُعطى الثّقة التامة في استخدام الأجهزة الذكية طوال الليل بحجة الاستذكار وحل الواجبات.
ولا يعقل أن نبتاع لطفل لم يتجاوز العاشرة من عمره جهازًا بمواصفات تشابه أجهزة رجال الأعمال بحجة التّمكن المالي.
ولا يُعقل أن يُترك للطفل حرية شراء الألعاب من المتجر الإلكتروني بأي مبلغ كان ودون رقابة.
ثم يأتي بعد ذلك دور النوح والتّشكّي بعد أن تصدّرت العواطف زمام الأمر كله، وغُيّب العقل عن دوره.
من جانب آخر..
تقول إحدى السيدات: من قوانين منزلي أن تُفصل جميع الأجهزة والاتصالات عند الحادية عشرة مساءً ويتوقف عملها نهائيًا.
وتقول أخرى: لابنتي مصروفها الذي لا يمكن أن تتعداه بريال واحد؛ حتى يتسنى لها معرفة قيمة ما تشتريه، ويصبح لديها القدرة لتوجيه المال الوجهة الصحيحة ومعرفة الطرق الصحيحة لإنفاقه أو ادخاره دون عبثية.
يقول أحد المفكرين: إن صناعة عقل واحد، خير من إثارة ألف عاطفة، العقل يثبت والعاطفة تموت، وثابت واحد خير من ألف منتكس.
ربما يتناسب ذلك مع وضعنا في هذه الأيام، فنضطر لإنهاء أرشيف المسكنة وضبط العواطف، لكننا نعجز عن الإمساك بزمامها مما يجرنا نحو الندم، ونُصاب بخيبة أمل بقرارات عاطفية ندفع ضريبتها نحن وأبناؤنا؛ فكلّ يغني على ليلاه في قصص الحسرة جراء تغليب العواطف وإقصاء صوت العقل، بل إن بعضهم يقول: لقد لُدغتُ ألف مرة من الجحر ذاته.
فما قيمة التربية والتّوجيه إذا تشابهت آراؤنا مع آراء أطفالنا؟ وما قيمة السنوات التي تفصل الأجيال عن بعضها البعض ويتميز فيها صاحب الخبرة عن غيره؟
وحتى يكون لك رأيك المنفرد عن غيره من الآراء، لا بد أن تفارق عقولهم وتغضبهم من أجل صالحهم الذي تراه أنت على المدى البعيد ويعجزون هم عن رؤيته، ومن الأهمية بمكان مخالفة رأي الناشِئ أو الطفل إذا كان خاطئًا ومعالجة ذلك بهدوء دون إظهار نوبات من الغضب تفضي لنفور جميع الأطراف، بيد أنّه يتحتم علينا إظهار الغضب في بعض المواقف كضرورة تربوية مُلحّة.
يقول الكاتب طه حسين: ما قيمة الكاتب إذا لم يُغضب قرّاءه؟
ومما لا يُخفى على الجميع اختلاف الهِبات الإلهية للكائنات الحية، فقد انفردت الطيور بأجنحتها ومخالبها وتحليقها بعيد المدى.
وأُعطي الحيوان القرن والظفر والناب والكر والفرّ السريع، بينما حاز الإنسان قصب السبق بملكة العقل والإدراك؛ إنها البطولة المطلقة على جميع الكائنات الحية والتحرر من سلطان الذل الذي ينتاب الإنسان في حال فقدان إلهامه المعرفي.