عندما شاهدته للمرة الأولى رجعت ذاكرتي للوراء عشرات من السنين لمساجد واحة القطيف القديمة العامرة ومحاريبها اللوزية المزينة بالنقوش الجصية الجميلة والمفروشة بالمديد المصفوفة قطعة جنب قطعة، ونصف المسجد المسقوف بجذوع النخل والمنتهي بالعقود الجميلة والنصف الآخر المكشوف لعنان السماء، وفي طرف المسجد (حب الماء) لمن أراد أن يبرد جوفه بشربة تنعشه، وهمسات المصلين يناجون ربهم بطيبة قلوبهم وأكفهم المتضرعة وتلاوتهم الخاشعة، لا يقطع هذا السكون سوى نسمة صيفية مشبعة بنكهة البحر وعبق اللوز وأريج الليمون القطيفي (هكذا عبر أحد المؤمنين عند رؤيته المحراب).
مع بدء أعمال صيانة مسجد المزار التاريخي بالدبابية قرر القائمون على صيانته إضافة لمسة تاريخية لمحرابه بأن يتم إعادة تشكيله مثل المحاريب القطيفية القديمة ذات النقوش الجصية الجميلة، ولإيصال الفكرة لتنفيذها بدقة تبادر لذهنهم الصورة المعروفة للمحراب التاريخي لمسجد الراجحية بقلعة القطيف وعمل المحراب بشكل محاك له. ولكن كيف يتم التنفيذ؟
تم الاتصال بالباحث المعماري الأستاذ المبدع إسماعيل هجلس، وشرح الرغبة الملحة في بناء محراب ذي طابع تراثي قطيفي قديم في هذا المسجد المبارك، وطرحت الفكرة ولم يخيب الأستاذ إسماعيل الظن حيث رحب ترحيباً كبيراً بالفكرة وأبدى استعداده للإشراف على تنفيذها.
وأنقل هنا تعليق الأستاذ إسماعيل هجلس، قائلًا: “لم تكن بالمهمة السهلة أو اليسيرة حين طلب منا القائمون على صيانة هذا المسجد التاريخي برسم ووضع مفردات عمارة المحاريب القديمة بما تحتويه من الأقواس اللوزية والزخارف المشتقة من البيئة المحلية”، وأشار إلى صعوبة الحصول على اليد العاملة الفنية التي تستطيع تنفيذ هذا العمل بالمواصفات المطلوبة وكذلك توفر المواد المناسبة، ولكن بتوفيق من الله تم الاتفاق مع اثنين من الفنيين الأكفاء على التنفيذ بالاستعانة بالصور المتوفرة لمحراب مسجد المرحومة راجحية الغانم التاريخي بقلعة القطيف، الذي يعتبر محرابه من أجمل المفردات المعمارية التقليدية والذي تزين بعدة طبقات من الزخارف الجصية ذات العمق الجمالي وتمت عملية تصاميم الزخارف بحيث تحاكي تماماً نفس الزخارف الموجودة في المحراب القديم، وبدأت مرحلة التنفيذ والتي كانت من أصعب المراحل واحتاجت متابعة شخصية دقيقة ومعرفة ثقافية بالتفاصيل.
كما أنقل هنا قول للباحث التاريخي الأستاذ عبد الرسول الغريافي: “بعد إزالة مسجد الراجحية بالقلعة في منتصف ثمانينات القرن العشرين الماضي أزيل معه إرث ثمين لا يعوض كان يبرز بجلاء تاريخ الفن المعماري الخاص ببناء المسجد القطيفي المتفرد في تميزه العمراني من المحاريب والأعمدة والعقود والزخارف الجصية المنقطعة النظير والمنفردة بمفرداتها.
وقد انفرد محرابا ذلك المسجد العِلوي منه والسفلي بفن نادر فلم يبق من آثارهما إلا صور تعيد للناس ذكراهما الجميلة، فانتشرت صور ذلك المحراب في كل مكان حتى في بعض الكتب الأجنبية التي تتكلم حول الفن المعماري كما قد تناولها الكثير من الباحثين وطلاب الدراسات العليا في رسائلهم وأطروحاتهم التي اطلعت عليها شخصيًا، فقلت في نفسي لقد غادر محرابا مسجد الراجحية من القطيف متوجهين إلى عالم آخر وكم وددت إعادة غرسهما في أحد مساجد القطيف وكم قدمت من توصيات لبعض المشرفين على بناء أو تجديد بعض المساجد في القطيف بأن يعيدوا بناء تلك المحاريب والأعمدة وكم أبديت استعدادي من أجل التعاون لذلك ولكن دون جدوى بل ومن المؤسف أن تتفاجأ بنقله وإعادة تصميمه في مناطق أخرى بحذافيره وكما كان في مسجد الراجحية تمامًا دون أي تغيير أو إضافات، مدعين أن هذا التصميم هو من صميم عمران بيئتهم التراثي، ولكن الحمد لله فما راعني إلا وباب بيتي يطرق في يوم ما لأبشر أولًا باعتزام مسؤولي مسجد المزار بالدبابية بتنفيذ مشروع تبني إعادة تصميم المحراب! فكم أثلج صدري هذا الخبر، وثانيًا كم كنت في حالة من التأهب والاستعداد لأن أقدم كل ما بوسعي من أجل التعاون في إنجاز ذلك المشروع الأغر.
وينبري المهتم بشؤون الفنون العمرانية الأستاذ إسماعيل هجلس جزاه الله خيرًا في الشروع لبدء التصميم والإشراف على التنفيذ وقد تمكن من ذلك بنجاح مع بعض التغييرات والفوارق الطفيفة طبقًا لظروف المسجد.
من المرجى مستقبلًا أن يتشجع الكثير من أهالي أحياء وقرى القطيف لأن يحذو كل مسؤول عن بناء أي مسجد حذو المسؤولين عن صيانة مسجد المزار بالدبابية ولهم الجزاء الأوفى.
يقع مسجد المزار بحي الدبابية جنوب حاضرة القطيف وكانت هذه البلدة مسورة كحال الكثير من بلدات القطيف القديمة ولها ثلاثة أبراج أحدها شمالي المسجد، ولها بوابة رئيسية في الجهة الشرقية وبابها يفتح جهة الشمال مقابل مدرسة زين العابدين (ع) الابتدائية، ويوجد داخل السور ثلاثة مساجد قديمة أخرى إضافة لمسجد المزار وهي: مسجد الشيخ محمد ويسمى أيضًا السدرة أو المسجد العَوْد، ومسجد الشيخ خميس بالإضافة لمسجد النساء. وهذه المساجد الثلاثة تحيط بعين الدبابية (عين العَوْدة) من الجنوب والغرب والشمال، وقد أمَّ الجماعة في هذه المساجد الأربعة علماء أجلاء مثل العلامة الشيخ محمد بن ناصر النمر والعلامة الشيخ منصور بن علي المرهون وابنه الشيخ علي المرهون والشيخ علي السويكت ومن قبلهم العلامة الشيخ أحمد بن صالح بن طعان.
دروازة الدبابية الرئيسية
وكأغلب المساجد في قطيفنا المحروسة لا يوجد تأصيل أو تدوين لتاريخ المساجد في المنطقة رغم أنه يعتقد أن بعضها يرجع إلى القرن الإسلامي الأول ولكن من الثابت أن مسجد المزار هو مسجد تاريخي قديم، وحسب الروايات الشفهية المتواترة فإن تاريخه يعود لبدايات دخول منطقة القطيف الإسلام، وتقول هذه الرواية التي يتناقلها الآباء عن الأجداد بأنه بعد اجتماع الأمر على الإمام علي بن أبي طالب (ع) ومبايعته بالخلافة في السنة الـ35هـ (656م) وفد الإمام الحسن (ع) للقطيف وأحد أماكن نزوله هو الموقع المعروف ببلدة الكويكب الذي أسس مكانه مسجد الإمام المعروف حالياً بمسجد الإمام الحسن (ع)، وأما الموقع الآخر الذي زاره فهو بالدبابية وهو الموقع الذي بني فيه هذا المسجد المبارك وسمي بالمزار تيمناً وتبركاً بزيارته الميمونة.
وإن أقدم وثيقة مكتوبة تخص مسجد المزار تعود إلى ما قبل 250 سنة وهي تؤرخ لأوقاف تتبع المنطقة وقد نشر الخبر في هذه الصحيفة «القطيف اليوم» الإلكترونية بتاريخ 31 مايو 2018م (هنا).
يقع بجانب المسجد أرض وقف كان ينوي العلامة المرحوم الشيخ علي المرهون إقامة مدرسة للعلوم الدينية عليها ولكن للأسف حالت أسباب عديدة دون ذلك. وقد تناوب على إقامة صلاة الجماعة في هذا المسجد المبارك مجموعة من العلماء الأجلاء منهم:
1- سماحة العلامة الشيخ محمد بن ناصر آل نمر.
2- سماحة العلامة الشيخ منصور بن علي المرهون حتى العام 1362هـ (كان يؤم الصلاة أربعة أيام في الأسبوع وباقي الأيام يرجع فيها إلى بلدته أم الحمام وكان يدرس العلوم الدينية في الحسينية العودة وهي بجانب منزله الموجود حتى اليوم، ومن أبرز تلامذته فيها وجهاء الدبابية ابنه العلامة الشيخ علي المرهون والسيد جعفر السيد أحمد آل ماجد والملا باقر المدن والحاج سعيد المقابي).
المرحوم السيد جعفر آل ماجد
المرحوم الحاج سعيد المقابي
3- سماحة العلامة الشيخ علي الشيخ منصور المرهون حتى العام 1383هـ.
4- الشيخ محمد حسن الشيخ منصور المرهون (وكان يؤم الصلاة صبحًا وظهرًا ومغربًا لأكثر من عشرين سنة عدا ليلتي السبت والأربعاء فإنه كان يتوجه إلى تاروت أو القديح لإقامة صلاة الجماعة هناك، وفي شهر رمضان كذلك كان يؤم الظهرين في المسجد ثم يعيد صلاة الظهرين في تاروت مع البحث وصلاة النوافل).
5- ملا صادق الشيخ منصور المرهون
6- الشيخ عبد الله عباس الحمالي
7- الشيخ حسين المرزوق
8- وحاليًا الشيخ فيصل عرقان.
أما بعض المؤذنين الذين تناوبوا فيه رحم الله الماضين وحفظ الحاضرين فمنهم: الحاج حسن بن مكي سلمان الغريافي، والحاج صالح بن محمد البناي، والسيد هاشم حسين آل إسماعيل، والحاج أحمد بن منصور جواد السويكت، والحاج أحمد بن منصور علي الضبيكي، ورضي بن علي منصور السويكت.
الشيخ محمد حسن بن الشيخ منصور المرهون في محراب المسجد
صورة المنزل الذي سكنه الشيخ منصور ثم من بعده ابنه الشيخ محمد حسن ولا يزال قائما.
السيد مرتضى صالح السيد صالح
taherasm@hotmail.com