بدأ فصلُ الشِّتاء يطرق الأبواب – وإن طرقًا خفيفًا – وعاقٌ من عاشَ في الجيلِ القديم ولا يذكر في فصلِ الشِّتاء عفوسة وعصيدة الأمَّهات والجدَّات! فهذا صديقي – القطيفيّ – يقول إن زوجته جمعت كلَّ تمر النخلة الوحيدة في منزلهم – من نوع الخلاص – من أجل عفوسة الشتاء. يا سبحان الله! قليل من التمر والطَّحين والسمن والماء كم يصنع من لذيذِ الأكل؟
لا تظنون أن طعمَ الأشياء في المكونات، السكر والملح وغيرها، إنَّ سحر الأكل في يدِ ونَفس الطّابخ! فإذا ما رأيتم الجدَّات والأمَّهات يطبخن، فهنّ لا ينتقلن من حركةٍ إلى حركة أخرى إلا وبينهما: اللهم صلي على محمَّد وآل محمَّد، ألف عافية لمن يأكل. ولا ينتقلن من مادةٍ لأخرى إلا وغسلن اليد بين المادتين!
أما مطبخ التاجر، فهو – وإن كان شهيًّا ولذيذًا- إلا أن كل هم الطَّابخ: متى ينضج الطعام، ومتى يأتي الزبون؟ وكم أربح فيه؟ وهكذا دواليك من أسئلة تحوم حول المال وتبتعد عن الروح!
كم هو عجيب طبخ الأمَّهات والجدَّات: لا يومَ يختلف مذاقه وطعمه عن اليوم الآخر، كله طيب، وأكل المطاعم، لا يوم يشبه الآخر، اليوم الملح قليل وغدًا الملح كثير، وأحيانًا يهيأ لك أنك تأكل فقط لتمتلئ المعدة، مع أن فيه ما في أكل البيت! السر المخبوء هو أن أكل البيت طيبته الأمّ والجدَّة!
أظن أنه عاقٌّ من لا يتذكر أول طعم – أكل – لامس حليمات التذوق، هو الأكل الذي صنعته الأم، فهل تدرك بنات اليوم كم من الذكريات سوف تبقى في ذاكرة الأبناء والأحفاد، إذا هم أكلوا هذه العفوسة والعصيدة؟ جربوها بالسمن البلدي!
هذه الخاطرة القصيرة في الحقيقة هي تمجيد وتعظيم لأجيالٍ من الأمهات والجدَّات – القطيفيات – صنعن مما توفر في أيديهن من مواد بسيطة، أكلًا ولباسًا وسكنًا، في زمنٍ كانت فيه الحياة – على بساطتها – مرَّة المذاق ومتعبة. ومع كل ذلك الشقاء صبر الزوجُ على زوجته، والزوجة صبرت على زوجها، والكلّ صبر!
أستحلفكم، كم قيراطًا من الصَّبر بقي اليوم بين النَّاس على بعضهم؟ مع سهولة وليونة الحياة الآن، مقارنة بالماضي؟ لا تقولوا لي إنه بقي أكثر من قيراط!