إجازة قدمها الشاب جمال عبدالله البصري، من مدرسة حزم أم الساهك الابتدائية، مودعًا طلابه، وقبلهم أسرته وأفراد عائلته، ليس ليقضي ساعات استجمام أو راحة من عناء العمل، إنما ليسجل اسمه في قائمة “الأبناء البارين بآبائهم”.
جمال، أو “أبو محمد”، الابن المحظوظ في نظر الكثيرين من إخوته من أبناء الجش، نعم إخوته من أبناء البلدة، وليس إخوته الأشقاء فقط، فهو الابن الذي وفّقه الله لأن ينهي معاناة آلام الكلى لـ”الأب الروحي” للكثيرين من أهالي بلدة الجش، بعد أن قرر أن يعرض رغبته في التبرع بكليته لسماحة الشيخ محمد عبدالله كاظم الجشي.
حظ بالتبادل
وحكاية “الحظ” التي حظي بها البصري ليست حكاية تبرع عادية كالكثير من قصص التبرع التي اشتهر بها مجتمع القطيف الخيّر في سنواته الأخيرة، إنما هي حكاية لعِب فيها الدعاء دورًا رئيسيًا، لتتحول من عملية تبرع شبه عادية إلى عملية تبرع تبادلية، كما يروي لنا صاحب القصة.
حكاية التبرع
قصة الرغبة في التبرع، كانت قبل عامين أو عامين ونصف العام، حين تردد على أسماع جمال كغيره من المقربين من سماحة الشيخ مرضه بالفشل الكلوي، الأمر الذي ترك آلامه في قلوب محبيه، إلا أن تلك القلوب بدأت في المبادرة للتبرع قبل عام واحد، حين بدأ في الخضوع للغسيل الكلوي، الأمر الذي استدعى أهله ومحبيه أن يبحثوا عن متبرع لينهي معاناته.
يقول جمال لـ«القطيف اليوم»: “علمت بحاجة سماحة الشيخ محمد كاظم للتبرع قبل عام واحد تقريبًا، حين بدأ في عملية الغسيل، وبعد أن بدأ البحث عن متبرع، بادر كثيرون ليحظوا بهذا الشرف، وكنت أود أن أشارك مثلهم في المبادرة، لكنني لم أعرف كيف أتكلم، لأن الغالبية سبقوني، بعدها علمت أن جميع من بادروا لم يوفّقوا للقبول، فبعضهم يعاني مشاكل، وبعضهم لم تكن كليته متوافقة مع أنسجة الشيخ، حينها عرضت مبادرتي، وبعد أن وافق سماحته، تقدمت وعملت الفحوصات قبل سبعة أشهر أو أكثر، وبعد شهور ظهرت النتائج، إلا أنها لم تكن متوافقة تمامًا”.
ويضيف: “بقيت أدعو الله أن أوفق لأكون سببًا في تخلصه من معاناته، وأن أكون المتبرع بأي طريقة أو سبب من الأسباب، وكان المستشفى قد أخبرني أن صحتي ممتازة، وتحاليلي أيضًا جيدة، وأنني جاهز للتبرع، إلا أنهم بحكم الوضع الصحي للشيخ والأمراض التي يعاني منها وتقدمه في العمر جعلتهم يحاولون أن يجدوا كلية متطابقة جدًا وبصورة كبيرة مع مواصفاته، خوفًا على صحته من الأمراض”.
الدعاء يفتح أبواب الحظ
اسمتر البصري في دعائه لأن يوفق في أن يكون السبب في خلاص سماحة الشيخ الجشي من أوجاعه مع غسيل الكلى، ولأنه كان لائقًا تمامًا للتبرع عرض عليه مستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام أن يضعوه على نظام التبادل؛ وهو نظام يلجأ إليه الأطباء عند غياب التوافق الطبي بين المتبرِّع الحي والمريض المستقبِل لعملية الزراعة، وحينها يمكن أن يَجري التبادل مع ثنائي آخر، شريطة أن يكون هناك توافق بين المتبرِّع من كل ثنائي والمريض المستقبِل من الثنائي الآخر، وفي حال موافقة كلا المتبرِّعَيْن، فإن الأطباء قد ينظرون في إمكانية إجراء التبرع التبادلي.
وافق جمال بكل رحابة صدر، وعن ذلك يقول: “أخبرتهم أنني جاهز لأي فرصة تأتي، -والحمد لله- قبل أسبوعين اتصلوا عليّ، وأخبروني عن توفر متبرع جاهز للتبادل خلال أسبوع أو أسبوعين على الأكثر، وبهذا الاتصال حظيت بهذا الشرف”.
تسمع نغمة السرور والفرح وهو يقول: “الحمد لله الأمور كلها طيبة، ونحن في انتظار إجراء العملية، وأن نبشر بسلامة الوالد الشيخ قريبًا”، مضيفًا: “لطالما كنت أريد أن أفديه بروحي، وأي شيء في مصلحته ويكون سببًا في سلامته كنت سأفعله”.
بين “الجشي” و”البصري”
إلى هنا قد تكون حكاية التبرع قد انتهت، لكن؛ كل نهاية تحتاج لبداية حقيقية. والبداية حين نقارن بين الاسمين؛ فالمتبرع من عائلة “البصري” والمتبرع له من عائلة “الجشي”، فما هو الرابط بين الاثنين، وما هي العلاقة التي تجمعهما؟!
لا يفاجئك جمال حين يكرر كلمة “الوالد” وهو يتحدث عن سماحة الشيخ محمد الجشي، فقد اعتاد الكثيرون من أبناء بلدة الجش وحتى البلدات المجاورة مناداته بهذا اللقب، ورغم أن سماحته لم يرزق بأبناء من صلبه، إلا أن جنحان عطفه وحنانه امتدت للكثيرين جدًا من أبناء بلدته، فهو “الأب الروحي” لهم.
سيارة مستعارة قربتهما
والبصري واحد من أولئك الأبناء الذين بدأت علاقتهم مبكرًا جدًا مع الشيخ الجشي، حيث يقول: “العلاقة مع الوالد الشيخ كانت منذ الصغر فقد كانت تربطه علاقة بالوالد والوالدة بحكم تربيتهما معه، إلا أن علاقة القرب الحقيقية والفعلية بسماحته بدأت في المرحلة الثانوية”.
يسترجع تلك الأيام، ويقول: “كان سماحته يصلي صلاة الفجر في أحد مساجد البلدة، وكان سماحته يأتي من منزله في منطقة “الإسكان” للصلاة، ولأنه لا يقود السيارة، ولم تكن تتوفر سيارة مخصصة لإعادته لمنزله قمت أنا باستعارة سيارة أحد الأصدقاء لأتكفل بإعادة الشيخ إلى منزله كل صباح”.
الأب الذي حظي باثنتين
وحين سألناه عن السر وراء إلحاحه ورغبته الكبيرة في أن يكون هو المتبرع للشيخ، أجاب: يقول رسول الله (ص) “الآباء ثلاثة، أب ولدك وأب علمك وأب زوجك”، وسماحة الشيخ رباني وزوجني”.
يسترجع ذكرياته مع والده الروحي، ويقول: “قصص كثيرة مرت علي مع سماحته، فحين كنت أدرس في الجامعة بالأحساء، لطالما حظيت بدعائه وبركات اهتمامه بي، كما أنه قبل زواجي عرض عليّ الذهاب للحج، وحين أخبرته بموافقتي أكرمني بحجة هدية منه مع حملة الشماسي”.
ويمضي في حديثه عنه: “كما أسلفت كان هو من زوجني، فقد سألني إن كنت أرغب بالزواج وأبديت رغبتي فيما سأل، رغم أنني مازلت أدرس في الجامعة، وكان كل من حولي مبديًا رفضه ومعارضته، عندها قال لي: من يعارضك قل له حين أطلب منك ريالًا واحدًا فلا تعطني، وبالفعل تزوجت بعد أن تكفل بكامل مصاريف زواجي من الألف إلى الياء، ثم بعدها رزقني الله بالوظيفة وبدأت أموري تستقر أكثر، رغم أنني لم أكن مقصرًا قبل وظيفتي في مسؤوليات بيتي وأسرتي الصغيرة”.
محمد يبشره بـ محمد
ويختم ذكرياته بفرحته الكبرى بابنه الوحيد بين خمس فتيات، ويقول: “رزقت بابنتين، ورغم حبي الكبير لابنتيّ إلا أن نفسي كانت تتوق لأن تحتضن صبيًا مع فتياتي الصغيرات، ووقتها كان أحد إخوتي ينصحني باستخدام الجدول الصيني كي أوفق بإذن الله لأن أرزق بولد، وعندما استشرت سماحة الشيخ قال لي ليس هذه المرة، سترزق بابن بعد أن ترزق بالابنة الثالثة، وبالفعل رزقني الله بـ”محمد” كما أخبرني”.
يلتمسون الدعاء
غدًا، سيرقد “أبو محمد” في المستشفى ليجري الفحوصات الأخيرة لعملية التبادل، وبعد غد؛ أي يوم الاثنين 1 نوفمبر 2021م، ستجرى العملية، وهو يتضرع إلى الله أن تنتهي بنجاح، سائلًا المؤمنين الدعاء لجميع الأطراف بتمام الصحة والعافية.