ليس من شك في أن مشكلة المشاكل التي يعانيها مجتمعنا وطاغية على أنماط حياتنا، هي ظاهرة الهدر والإسراف التي أصبحت تستنزف جزءاً هاماً من مصروفاتنا والضرر التي تلحقه بمدخراتنا.
نحن في زماننا نسمع أحاديث عن عدة عائلات ثرية عاشت البذخ ورغد العيش والحياة الناعمة، وسلكت سلوك الهدر والإسراف، انقلاب غذائي كبير تتجاذب أطرافه معطيات الحياة الثرية، بكل نعم الغذاء الظاهرة العامرة على موائدها، وسرعان ما رأينا غضب الله عز وجل ينزل عليها، فتحول ذلك الثراء إلى عوز وضيق، كون هؤلاء الأثرياء والأسر الغنية لم يقدروا لقمة العيش ولم يحسّوا بفداحة ذلك السلوك إلا عندما فقدوا تلك الخيرات، وجفت ينابيع المعيشة، عند ذاك عرفوا قيمة سرّاء ومتعة الحياة، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [سورة النحل، الآية: 112].
للأسف الشديد قد يمارس بعض الناس سلوكاً مسيئاً يستحق مقتنا أو ازداءنا، وقد يكون مألوفاً لدى بعض الأسر التي تعودت على موائد البذخ والترف، فصلاً هاماً من فصول التحضر الإنساني أن نرى أكلات الثراء في حاويات القمامة والمزابل، وواقعنا مليء بأمثلة لا حصر لها، هذه العادة الاستهلاكية طغت عند الكثير من الناس ومرده مستوى دخل العائلات، كميات كبيرة مما يأكلونه أو يطعمونه مصيرها سلة المهملات، هو طبعاً يتكرر للأسف في معظم بيوت الأغنياء، لا يمكن أن يوصف من يراه غير أنه مسلك تدمير عائلي واجتماعي، وقفنا محتارين أمام تلك السلوكيات التي لا يحبها الله سبحانه، وتسيء إلى سمعة بيوتنا وروح مجتمعنا وهدر مقدرات وموارد حياتنا وبلادنا وهدم أصالتنا، هذا ما تفعله كثير من المجتمعات، وإذا كنا تعودنا على تلك المشاهد العابثة والسلوكيات القاسية، فليس معنى هذا الرضا بالهمجية المدمرة وبالصورة التي تعودناها، ناهيك عن مظاهر الحياة الأخرى، مأكلاً وملبساً وعادات!
والواقع أن ما نشاهده في جيل اليوم من هدر أو تبذير يصعبُ اختزاله في بضعة سطور! حقيقة الأمر – وأقولها بشيء من الحزن – إن في ذلك إخلال بثوابت الدين وقيمنا الاجتماعية.
وإذا كان المجال هنا لا يتسع لكشف الكثير من تلك السلوكيات والممارسات التي تقترف هنا وهناك، مما لا يقره شرع ولا تصونه قيم، فالنعمة لا يعرف قيمتها إلا من يفتقدها.
ونحن نسأل كيف للأثرياء يدركون قيمة دوام النعمة وحسن التعامل معها؟ فالنعمة لا تدوم بغير الشكر لله سبحانه وتعالى، ولا يزيلها غير النكران والجحود، فعليك بالسجود للمنعم المتفضل شكراً وثناءً، والحمد له وحده تبارك وتعالى من قبل ومن بعد.
لنبدأ من حيث انتهى آباؤنا الأولون كانوا يمارسون الصرامة في زرع قيم التربية بالقدوة، ففي مسألة احترام النعمة وغيرتهم عليها، وتشجيع الأبناء وتعويدهم على صياغة توليفة تربوية فاعلة منذ الصغر.
حاجتنا أشد إلى أن نتأسى بالأجداد والآباء الذين أقاموا الصروح وشيدوا الأمجاد، فهم مدرسة نتعلم فيها ومنها الكثير من العادات والتقاليد والأعراف القديمة والموروثات التربوية التي تقوم على المحافظة على النعم.
في ذلك الزمن الذاهب نكاد لا نجد كسرة الخبز اليابسة على الأرض، فأين هي القدوة اليوم من عالمنا؟؟!
نحن وقعنا ضحية الإفراط أو التفريط، وديننا الحنيف لم يرفض متاعَ الدنيا ولا زينتَها، مادام ذلك لا يضير بالعقيدة، ولا يضر العبادة.
أما أخطر ما في هذه الثقافة القائمة على الهدر وبأي أسلوب كان، فهو يكمن في ما يحمله من مخاطر على صحة الإنسان وسلامة المجتمع.
الفرق بين الأمس واليوم هو أن الممارسات التربوية داخل البيت غابت فيها هيبة الأب والأم، كان ذلك بمثابة فقدان عامل القدوة في الأقوال والأفعال والأخلاقيات.
ظاهرة صحية في حياتنا المعاصرة قد تبدّل مفهوم أكلات الثراء والبذخ والولائم العامرة بسبب الأحوال الاقتصادية وكثرة متطلّبات الحياة العصرية، فتزايد الاستهلاك كما هو معروف مرتبط بالقدرة الشرائية، وكلما تزايدت هذه القدرات، ضاعت الحدود الفاصلة بين الضروري وغير الضروري، وبين تلبية الحاجات والبذخ.
وختاماً قد يكون من المناسب أن ننهي هذه المقالة بـهذا السلوك السليم “أكمل صحنك” لمحة تربوية نسمعها وتتكرر على مائدة الطعام.
لا شك أن التحكم في كمية الطعام التي تتناولها والنجاح في ذلك أمر ليس بالسهل، ولكن التعود بأن تأكل جميع ما في صحنك ومداومة التدرب عليه يجعله أكثر سهولة.
كما أن هناك عدداً من الأساليب التي يمكن أن تساعد على ذلك ومنها: التعلم من الصغر على آداب الطعام جزء من العملية التربوية ومن أولويات البيوت، إنه هاجس يومي لدى الأب والأم اللذين يتصرفان بشكل عام على أساس مبدأ توفير أكثر وأفضل ما يمكن للأولاد، ولكن مع التأكيد من خفض الهدر إلى مستواه الأدنى، ولا شك في أن كل طفل سمع عشرات المرات على سفرة الطعام أمر “أكمل صحنك”، والذي وإن كان في شكله يعبِّر عن حرص على أن يتناول الأبن المزيد، إلا أنه في أساسه يمثل تدريباً يومياً على ألا يضع في صحنه ما يزيد على حاجته الفعلية، وبالتالي يصبح أكلاً يُلقى في سلة المهملات، وكم من الأهل في العقود الأخيرة وبَّخوا أولادهم على ما تركوه في صحنهم من أكل بتذكيرهم “حرام – نعمة الله”.
والعلاقة بين الولد وصحنه فيه منفعة مزدوجة، فكما أن الولد ينتفع على المدى القصير من إكمال صحنه، وعلى المدى الطويل من تعلُّمه حساب المقدار الذي يحتاج إليه، كذلك يستفيد الولد من ترشيد نفسه بطريقة صحية، فهو اعتاد على أن لا يضع لنفسه أكثر من حاجته دون زيادة ليضمن لنفسه بيئة سليمة، فلا يملأ صحنه أكثر مما يستطيع أن يأكله.
ويعتبر تجمع أفراد العائلة على مائدة واحدة وعلى أطباق مشتركة، سوف يجعلهم على أن يتعودوا بعدم ترك شيء من الطعام لحاويات القمامة، ونحن هنا لا نشجع على أن تلقى الأطعمة في المزابل، ولكن من المهم أن نسأل أنفسنا عما إذا كان من الأفضل لصحتنا أن نأكل الطعام كله، أو أن نتركه في الطبق، ونذكر دائماً السؤال التالي: هل من الأفضل للطعام أن يوضع في سلة الزبالة أم يوضع في البطن، أم أن الأفضل هو إتباع نصائح سابقة الذكر؟
حسناً.. أن نبدأ نحن الكبار بتغيير عاداتنا الغذائية وأن نعود أطفالنا عليها بالتدريج، دائماً ما نشاهد الأم تضع طبقاً مليئاً بالطعام لطفلها، زيادة عن اللزوم، ويكون مصيره العبث واللامبالاة، هذا السلوك سيئ ويجعل الإيقاع في البيت يتجه إلى مسلك تدمير للأبناء والصغار، ويعلِّمهم عدم الانضباط فيما يأكلونه ويشربونه، وفي النهاية نحن المسؤولون كآباء وأمهات، ونحن من يشتري الغذاء، ونحن من يقدمه للطفل.
ما أحوجنا اليوم قبل الغد إلى غرس هذه المفاهيم وسط مجتمعنا وفي عالم تسوده حماقات الساسة وعزة أهل القوة المادية فهو عالم يموت فيه فاقد الحاجة على قارعة الطريق كما يموت فيه في ذات الوقت مالك الحاجة فميتة الفاقد بسبب الجوع والعوز والفاقة وميتة المالك سببها الإشباع التي كسبها على حساب فاقدها وما شبع غني إلا على حساب فقير.
منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات.