تحت ظلال الإمام الحسن العسكري

مكانة أهل بيت رسول الله (ص) في الأمة اتخذت منحى الرفعة والجاذبية، وذلك أن شخصياتهم بما تحمله من معارف حقة وأخلاق عالية استهوت القلوب والعقول، فما من فضيلة أو صفة كمالية تعلي النفس البشرية مكانتها وترغب في التحلي بها إلا وتجد سيرة أهل البيت تجسيداً لها على أرض الواقع.

ومع تلك الظروف الصعبة التي عاشوها ما زادتهم إلا قوة ومنعة وعطاءً وتبليغاً عالياً، فإن الحكم على شخص ما في إمكانياته وقدراته لا يكون من خلال كلماته فقط أو سيرته وقت الرخاء والانبساط، ولكن أوقات الشدة ومواجهة الصعاب هوما يظهر الوجه الحقيقي له، وأهل البيت (ع) واجهوا كل ألوان الابتلاءات بروح الإيمان والصبر والعزيمة وعمارة الأوقات بالطاعة والعبادة، ومواقفهم مع الناس ما أظهرت إلا فضلهم ومستواهم العلمي الذي أهلهم ليكونوا مرجعية في الأمة وقطب الرحى لبث المعارف والإجابة عن كل التساؤلات، وكانوا الكهف الحصين للناس في الحفاظ على عقائدهم من الشبهات الإلحادية ومواطن الجهل في شتى العلوم، كما أن الكلمات الواردة عنهم تكشف عن نوع من العلم يمثل امتداداً لنهج جدهم المصطفى (ص).

والإمام الحسن العسكري (ع) على قصر عمره الشريف فقد عاش ثماني وعشرين سنة، إلا أن الجوانب الواصلة لنا من معارفه وسيرته تنبئ عن شخصية عظيمة اتسمت بالتقى والحكمة والهمة العالية في ساحة التبليغ، وفترة المحنة التي عاشها (ع) في السجن تحتاج إلى تسليط الأضواء عليها، لما لها من دور في إبراز نموذج خاص يذكرنا بسيرة الأنبياء في محنهم وإصرارهم على مواصلة الدعوة إلى الله عز وجل، فسجن نبي الله يوسف (ع) كان موضع هداية لمن كان فيه وسبباً في صقل شخصياتهم بما يسمعونه من هذا النبي العظيم ويرونه من سيرته الأخاذة بمجامع القلوب.

وكذلك هي سيرة الإمام العسكري (ع) في تعليمه وتربيته لمن كانوا حوله ومن تعاملوا معه، فقدر من الروايات الشريفة التي ينقلها أبو هاشم الجعفري (رض) عن الإمام كانت في فترات سجنه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظمة الإمام وهمته وعزيمته التي لا تلين في ميدان العطاء والتبليغ، فالضغوط على الإمام (ع) بوضعه في السجن يراد منها هز الجانب النفسي له وإسقاطه في ظلمات اليأس والعجز، ولكن الإمام (ع) شمس عطاء ساطعة ونبع معرفي دفاق وكهف تأوى إلى أخلاقه القلوب واجه التحديات الصعبة بعزيمة وإرادة.

وأعطى (ع) مثالاً للشخصية الرسالية القوية التي تحول الظروف الصعبة إلى فرص سانحة يواصل فيها عمله بحسب الإمكانيات المتاحة، وما أسعدنا لو اتخذنا الإمام العسكري نموذجاً يحتذى به في ساحة تنمية القدرات الفكرية والمهارية والعمل مهما واجهنا من صعاب وعثرات، فلا نتخلى عن أهدافنا وطموحاتنا لمجرد الإخفاق أو التعثر في مرحلة معينة، فنجعل من أعمارنا ميدان عمل مستمراً نتكيف مع الواقع بسهله وصعبه ونضع من الغايات ما يتناسب مع كل ظرف وزمان.

كما أن الإمام العسكري (ع) قدوة للمؤمنين في علاقتهم بربهم ودورها في حياتهم، فهو(ع) حتى في فترات السجن تجلى منه الانقطاع إلى الله تعالى والزهد في الدنيا، وما أحوجنا اليوم ونحن يداهمنا مرض العصر القلق والهواجس من اللحظات الحرجة والظروف الصعبة، أن نتخذ من نهج الإمام العسكري العبادي نقطة قوة واقتدار، فنلجأ إلى محراب العبادة والمناجاة لنستعيد طمأنينتنا ونستمد الأمل بالله تعالى.

ومن السمات الكمالية في شخصية الإمام العسكري (ع) وسر الجاذبية له هو ما يحمله من خلق رفيع وتعامل جميل مع الناس كآبائه (ع)، ومع كل المحاولات البائسة لتوجيه الإساءة لشخصه الكريم فإنه كان يقابلها برحابة صدر وامتصاص لانفعالات الطرف المقابل، إن هذه الدرجة العالية من التعامل مع المسيئين تذكرنا بنهج آبائه وجده المصطفى (ص)، حيث يقابلون أعداءهم بما يحول الآخر إلى خط الهداية.

وفترة سجن الإمام كانت محطة هداية وإرشاد لأشد الناس عداوة له، واستطاع بخلقه الرفيع وما يمتلكه من مقومات الهيبة والتأثير والإقناع أن ينتشلهم من حياة الذل والهوان إلى الحرية والكرامة والخشية من الله تعالى، كما حصل لصاحب السجن الذي وكل به ليضيق عليه ويوجه له كل كلمات السب والشتم، إلا أن الإمام (ع) بسمو أخلاقه قاده إلى مرحلة التغيير الإيجابي والتوبة ومعرفة حق الإمام (ع).



error: المحتوي محمي