أحاديث جارتي العطريّة!

يقول رجاء الأنصاري:
أطيِّبْ بجارِكَ مِثلَ المِسكِ صحبَتُه
كي يستَطيبكَ مِثل النَّدِّ جِيرانُ

جيران اليوم يختلفون عن جيران الأمس، والجار الحقيقي هو من يسكن في القلب قبل سكنه بين جدران المنازل.

أسكن في منزل بحيّ يُعدُّ من الأحياء الجديدة غير أنني مُحاطة بجملة من الجارات الأنيقات لفظًا وفكرًا. ومجازيّا أستطيع أن أقول بيننا جسور ممدودة لا تهدمها الأحداث، ولا ترفعها الأيام، نتقاسم الفرح والحزن كأسرة واحدة وقلّما يكون ذلك في زمن لا يعرف الجار جاره مع تقابل أبواب السكن.

بيني وبين جاراتي بسمة حانية، وعناية بشؤون بعضنا البعض، يجمعنا الحب وإن جَمدت حركة الأجسام، يومًا ما تقاسمنا أرغفة الخبز، وتعاهدنا بعضنا البعض بالسؤال والدعاء في ظهر الغيب.

في حيّنا الجميل نحن مثل عمّال مناجم الألماس الذين يمتلكون القدرة على فرز الأحجار النّقية من الشوائب العالقة بها لذلك أشعر بمتعة عندما أنصتُ لأحاديثهن القيّمة التي تدل على العقول الراسية بالعلم والتجارب المُلْهِمة لصقل المحتوى.

تقرأ في منازلهن عناوين كتب لعظماء يتحدثون بصمت حينًا وأخرى يكشفون عن كلمات تشعرك بالاستقرار النفسي والروحي فتسمو الروح ويستمتع الوجدان. تجاذبت أطراف الحديث ذات يوم مع جارتي الحبيبة، معها أشعر بخجل من نفسي خاصة عندما أتكاسل وأسمح للخمول بزيارتي زيارة خاطفة لأن جارتي بالرغم من دوامها الطويل إلا أنها تستغل وقتها بجدارة لا تشبع من عمل الخير ولا تلتفت لك إلا بابتسامة ساحرة بعد يوم طويل قضته في عملها في إحدى الدوائر الحكومية، أتعبها العمل وهي مازالت في أوج نشاطها الفكري صاحبة علم مركب، وكعادتي لم أخرج من دائرة الحديث معها إلا باستثمارات وقتيّة ثريّة.

وصلت مرافئ أحاديثنا نحو شاطئ من الألم هذا ما كنت أعتقده، فعندما رستْ سفن أحاديثنا عن تجربة فقد الأبناء والأم الثكلى رسمتُ لها صورة أمّ تتألم؛ قد أضناها فقدُ قطعة من جسدها، لك أن تشعر بنياط قلبها يتمزق وترى ألوانه القانية تصبغ وجهها، لكن دعوني أتجول معكم في ساحة أحاديثها العطرية، فعندما قلت لها: حدثيني عن ساعات الألم التي مرّت عليك بعد فقد ابنك! وكم تحتاج الكلمات إلى جيش من الحروف كي تكون مثل حجر الرحى الذي يطحن مشاعرنا نحن الأمهات على خدش بسيط يُصيب أبناءنا إلا أن الأمر بدا مختلفًا معها؛ لأنني شعرتُ بعلامات الرضا تلحق كلماتها وجدير بالملاحظة أنها ذكرت لي فوائد الفقد ولم يكن بين كلماتها ما يثير أيّ جزع بموت فلذة كبدها قالت لي: حبّ الأبناء أقدس أنواع الحبّ، لقد استمتعت بوجود ابني بجواري أربعة عشر عامًا ثم أذن الله تعالى بساعة الفراق، -الحمد لله ربّ العالمين-، أخذه الله لجواره منذ عشر سنوات، ومنذ ساعتها وأنا أشعر بمتعة أجر وثواب الفقد ودعاء المؤمنين.

ثم تابعت حديثها كأميرة ملكت صنوف التسليم بالقضاء والقدر وهي تهمس بأذني قائلة: إنني مشروكة في دعاء كلّ خطيب منبر يرفع يديه ويقول: (ساعد الله قلوب الفاقدين). لك يا عزيزتي أن تتخيلى كيف يحرم الإنسان نفسه من مقامات أهل الصبر والتسليم ودرجاتهم العليا يوم القيامة بالجزع وسوء الظنّ بالله تعالى! وهكذا كانت تدعم حديثها بسيرة أفاضل الناس وخيارهم فذكرت أم المؤمنين السيدة أم سلمة حين روت قائلة: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “ما من عبد مسلم تصيبه مصيبة فيقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا أخلف الله له خيرًا منها”. ثم قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومن مثل رسول الله؟!

قرأت في عينيها مسالك الجنة، وأبحرت في قوافيها الشعرية فعجزت عن أن أصفها ببحر يليق بهذا الحديث الأشم. لقد تنبّهتُ لكتاب جميل كان يتصدر كتب مكتبتها اسمه (مسكّن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد) كان كتابًا رائعًا كما وصفتْهُ، وكان لها سلوى بعد أن اختار الله ابنها لجواره فما أن يغالبها الشوق ويضنيها الفراق إلا وبحثتْ عن شيء يبعث الاطمئنان والسكينة لقلبها المكلوم، لكنها في جميع مواسم الحزن عاهدت نفسها ألا تقول شيئًا يُغضب الله تعالى منها.

من هو الذي قدّر القدر؟ ومن يقدّر كلّ قدر على وجه هذه الأرض؟ سؤالٌ طرحته عليّ باستفهام إنكاري يكشف النّقاب عن ثرثرة من فغر فمه بسوء الأقدار.

تابعتْ حديثها وأشرق محياها وهي تردد: الشوق لابني يدفعني للبكاء في كل وقت ويتسلل الشيطان لي وقت أداء الصلاة ليشغلني عن ذكر الله فأذرف الدموع كرامة لحرقة فؤادي إلى أن انصرفت عن وجهة شيطان نفسي فكان كلما خطر ببالي المرحوم أضعُ يدي على قلبي وأسلّم على الإمام الحجة ثم يتبادر إلى ذهني أن الإمام عليه السلام سوف يقوم بمساعدتي.

وفعلًا كلما مرت الأيام سلّمتُ على الإمام وسألته العون إلى أن مدّني الله بقوة تخللت جميع حواسي وطافت ببدني طاقة عجيبة، وشملتني رحمة الله وعنايته وتوالت عليّ نعمه تترا.

انصرفت عنها وأنا أحمل بداخلي السلام لها وعليها وعلى الحياة التي وضعت في طريقي نماذج مثل جارتي، راجية من الله تعالى أن يرمي في قلوب كلّ فاقد وفاقدة انشراح النفس وسكونها وما أظنه تعالى ينساهم. نحن في هذه الدنيا سنقضي أيامًا ثم نغادر بعدها ويكفينا من زادها التقوى والعمل الصالح والإذعان لأمر الله والرضا بما كتبه لنا؛ خيرًا كان أم غير خيرٍ كما في تصورنا محدود الأفق وهو عند الله تعالى أمر آخر.

نمضي ويبقى الزمن، وتبقى الأرض، وتبقى السماء، وتبقى أرزاقنا نستنزلها بحكايا مغلّفة بالإيمان بالله تعالى. من زاوية أخرى نقف أحيانًا عند مصارع عقول هوت بأجسادها نحو الهاوية، ونرتشف عذب زلال من عقول امتلأت حَصَافَة وحنْكَة.



error: المحتوي محمي