من عادتي أن أقرأ ملفات المرضى قبل حضورهم العيادة لأكون مستعدًا لتقديم النصائح المهمة والمناسبة لكل حالة مرضية. فتحت أحد الملفات قرأت الاسم (محمد جاسم…) من سكان مدينة القطيف.
أيعقل أن يكون هذا هو أستاذي في الثانوية؟! كنت أنتظر حضوره بشوق. قاربت العيادة على الانتهاء. لم يحضر! في الساعة 11:50 طرق الباب، طلبت من إحدى المتدربات أن تفتح الباب، دخل المريض، دققت النظر؛ لحية بيضاء، وجه شاحب، هزيل الجسم.
رحبت به وقلت له تفضل بالجلوس، سألته عن اسمه فأجابني: محمد جاسم. تهلل وجهي فرحًا ورحبت به مرة أخرى ثم فتحت ملفه وبدأت أقرأ بصوت مسموع: محمد جاسم، مدرس مادة الأحياء في ثانوية… منذ عام 1409هـ، كان مدرسًا مخلصًا، يحب طلابه، مبدعًا في مادة الأحياء.
نظر إليّ الأستاذ محمد متعجبًا وقال: هل كل هذا مكتوب في ملفي؟ قلت له: وأكثر من هذا. قال لي: هل أنت تمزح معي أم ماذا؟! المعلومات التي قلتها صحيحة، ولكن. قاطعته قائلًا يبدو أن مهنة التدريس قد أثرت عليك كثيرًا. صحتك أيها الأستاذ العزيز ليست على ما يرام. السكر غير منتظم وهناك ارتفاع في ضغط الدم، ولديك اضطراب في تحاليل وظائف الكلى!
سألني مرة أخرى: من أين لك تلك المعلومات عني؟! قلت له: دعني أرجع معك بالذاكرة لعام 1409هـ، عندما كنت تدرس لنا مادة الأحياء، أنا أحد طلابك. ابتسم وقال: وهل كنت من الطلاب المتفوقين؟! قلت له ضاحكًا: ربما كنت أحدهم ولكن دعني أذكرك بهذا الموقف الذي لم يغب عن ذاكرتي.
بدا قلقًا وقال: وما هو؟ أتمنى ألا يكون موقفًا سيئًا. إن كنت قد غلطت عليك فأرجو أن تسامحني، أو كنت قد طرتك من الفصل فربما كان هذا خارجًا عن إرادتي.
قلت له: لا تقلق بل موقف إنساني لا يمكنني أن أنساه. ثم بدأت أسرد له الموقف: في أحد الاختبارات الشهرية لمادتك الجميلة كنت قد اكتشفت أن أحد الطلاب يغش من زميله وينظر لورقته! فأخذت ورقته وكان الطالب يترجاك أن تسامحه وألا تضع له صفرًا فهذه هي السنة الأخيرة وعليها يتحدد مصيره.
كنت أيها الأستاذ العزيز تقرأ الإجابات. ثم توجهت للطالب قائلًا: هل هذه إجابتك أم أنك غششتها من زميلك؟! اصدقني القول. قال الطالب: بل إجابتي ولم أغش من زميلي أي حرف ويمكنك أن تقارن بين إجابتي وإجابة زميلي. ثم أخرجت قلمك وبدأت بالكتابة على الورقة! كان الطالب يبكي ويرجوك ألا تدمر مستقبله!
بعدها أعطيت الورقة للطالب وقلت له: انظر في ورقتك فقط. مسح الطالب دموعه ونظر لك. لقد تجمدت الكلمات على لسانه! بعدها أيها الأستاذ العزيز قلت كلمة واحدة: أنتم الآن في آخر سنة. لا نريد أيًا منكم أن يجلس في بيته. أتمنى أن تلتحقوا بالجامعة. نريدكم جميعًا أن ترفعوا رؤوسنا بتقدمكم الدراسي. اختاروا تخصصات علمية تخدم بلدكم.
بعد انتهاء الحصة سألت زميلي: ماذا كتب لك الأستاذ في ورقتك؟! أجابني: لقد كتب لي “اكتب أي سؤال أنت تعرف إجابته جيدًا.. وستنال الدرجة الكاملة”. قلت لزميلي: هذا أستاذ استثنائي. ثم سألت الأستاذ محمد جاسم؛ هل تذكر هذا الموقف؟! أجابني: نعم أتذكره جيدًا رغم تباعد السنين. ولكن من أنت. هل أنت الطالب الذي حاول أن يغش من زميله؟! قلت له ضاحكًا: أنا الطالب الذي حاول زميلي أن يغش من ورقتي. ثم سألني عن زميلي أين هو الآن؟! قلت له: لقد تخرج في الجامعة وأصبح مهندسًا ناجحًا. ثم وقفت وتقدمت نحوه خطوات. انحنيت على رأسه وقبلته، وقلت له: أنت أستاذ ومربٍ فاضل تستحق أن تكرم وأن تقدم لك عبارات الثناء والتقدير!
انحدرت دمعة على خده وقال: الحمد لله الذي وفقني لأرى أمثالك، ثم قال: هذا هو علاجي، شكرًا لك!
همسة:
نعم نحن بحاجة إلى هذا العلاج المجاني: ابتسامة مع المرضى. بث الأمل في نفوسهم. تقديرهم. احترامهم. الكلمة الطيبة معهم.