دخلت الكتاتيب وهي في عامها السابع بناءً على رغبة والديها لِتتعلّم القرآن الكريم والمنتخب (الطريح الفخري)، حتى تتمكن من القِراءة لتنضم إلى صفوف المتدربات على القِراءة الحسينية في المآتم القريبة من منزلها.
نشأت في محيط أُسري يحب العلم، وكان لوالديها دور كبير في تشجيعها على الاستمرار فيه، حيث تتلمذت على يد المعلمتين المرحومتين مريم الطويل وزهراء حسن آل نصيف، وأكملت مشوارها التعليمي باِجتياز القِراءة الصحيحة للقرآن الكريم والطريح الفخري ووفاة النبي محمد (ص).
الحاجة مرزوقة علي عيسى السنونة (أم علي) المنحدرة من تاروت، حي الأطرش، تروي حكايتها لـ«القطيف اليوم» قائلةً: “ولدتُ في شهر شعبان عام 1367هـ بعد طول انتظار وترقب من والديّ لأن يرزقا باِبنة، فوالدي رزق من أمي ستة أبناء ذكور وأنا وحيدتهما، ولهذا أسمياني (مرزوقة) وحملت اسمي بكل فخر واعتزاز، فيكفي أن والدَيّ هما من اختاراه لي تفاؤلًا بي وبقدومي للدنيا لأنني رزق من الله لهما ولي من اسمي نصيب”.
قارئة ناشئة
بدأت الحاجة مرزوقة مشوارها في القِراءة الحسينية كقارئة ناشئة مع الخطيبة طيبة بنت محمد آل حسين “رحمها الله”، وهي في الثالثة عشر من عمرها، وكانت ممن تعلّمن في المنازل (المعلِّم) بدلًا من المدارس التي لم تكن موجودة في صغرها، وكان المعلّم بمثابة منتدى علمي يتلقى فيه البنات والأولاد قِراءة القرآن الكريم للفترتين الصباحية والمسائية، وكان الأغلب من سكان جزيرة تاروت يعتمدون على هذا النمط التعليمي التقليدي الذي فتح آفاقًا علميةً واسعة لبعض طلبة العلم وأعطاهم فرصة الانطلاق لتحصيل مستوى أعلى وأرقى في فن الخطابة الحسينية.
تشجيع الوالدين
تترجم “السنونة” مشاعِرها بكلماتها الدافئة مستذكرةً والديها -رحمهما الله – موضحة أن هناك نجاحات تُبنى على أساس التشجيع من الأهل، وهذه من الأدوار الكبيرة التي لا تُنسى أبدًا عند الحاجة “أم علي”، فوالدها رحمه الله كان رجلًا مؤمنًا تقيًا يحب العلم ويهتم به ويجالس الخطباء والمهتمين بالعلم، ما جعلها قريبةً منه، تصف ذلك بقولها: “كان يناقشني ويطرح علي بعض المسائل الدينية الفقهية وبعض التأملات في الآيات القرآنية، وإن كانت بسيطة حسب مؤهلاته العلمية في تلك السنوات الماضية، إلا أنها بالنسبة لي كبحر من العلم لأنني تلميذته الصغيرة، وكان لوالدتي زينب حسن سالم – رحمها الله – الدور الأساسي باصطحابها لي لبعض المآتم لأكتسب من خِلالها طريقة القراءة الحسينية”.
بدايات موفقة
“نصيبك على قدر اجتهادك ولكل مجتهدٍ نصيب”، هذا ما قالته الحاجة مرزوقة عن بداياتها: “عندما تسعى وتبحث وتُلم بمعلومة أو مهارة معينة لا بد لك من ممارستها، فهذا هو الأساس للحفاظ على ما تعلمته وحِفظته حتى لا يذهب سدى، وفي الكتاتيب (المعلِّم) كان لا بد لنا من الدخول في مضمار التدريب على القِراءة الحسينية بأنواعها بدءًا من قِراءة السيرة العاشورائية تدريجيًا للوصول إلى الخطابة بِأداء مميز ومتقن، وهذا يتطلب الخروج والمشاركة في المآتم حتى تستطيع الـ”اوليدة” (المتدربة) أن تتخطى المخاوف والارتباك ورهبة المستمعة (الجمهور)، وأنا تعرضت لهذا وتخطيته بتوفيق الله”.
ملازمة الخطيبة آل محمد حسين
تعود الحاجة مرزوقة بذاكرتها إلى السنوات الأولى التي تدربت فيها على يد الخطيبة الراحلة طيبة آل محمد حسين، حيث إنها قارئة كبيرة ومشهورة في تاروت وتعتبر من الخطيبات الأوائل اللاتي تميزنَ بالأطوار التقليدية وكان لها جمهور كبير من النساء وصيتٌ ذائع حتى بعد رحيلها “رحمها الله”.
وتتابع: “لازمتها مدةً طويلة، فكانت بداياتي معها في مأتم حسيني بتاروت مع مجموعة كبيرة من النساء والفتيات، كنا نتعلّم من خِلالها المهارات القِرائية، ومن القارئات الكبيرات نأخذ طريقة الأطوار الحسينية، ففي السابق لم يكن يوجد هذا التطور النوعي السريع في القِراءات والدورات التدريبية وأداء الأطوار التي تخدم المتدربين في تعلّم المقامات وتنمي مواهبهم”.
تبادل الأدوار
وتتذكر بعضًا من جوانب حياتها العملية والعلمية، مشيرة إلى أنها دخلت مرحلة متقدمة وتبادلت الأدوار من “اوليدة” تتعلم إلى معلمة تُعلِّم الفتيات وبعض النساء وتدربهنَ على القِراءة، لافتة إلى أن رحلتها معهن كانت ممتعة، خصوصًا عندما ترى مستوى الحفظ لديهن الذي يحفزها على الاستمرار، وبقيت معلمة عدة سنوات إلى أن كثرت الالتزامات وتوقفت عن التعليم فانصب وقتها وجهدها على القِراءة الحسينية، وليس ذلك فقط، لكنها كانت المسؤولة عن الطبخ في مأتمها كذلك بمساعدة بناتها ورفيقات الدرب خادمات الحسين (ع).
تأسيس الحسينية
وتكشف الحاجة عن تاريخ تأسيس حسينيتها عام 1402هـ مؤكدة أنها كان في قلبها أمنية سألت الله أن يحققها على حب الحسين (ع)، وهي أن يكون لعائلتها مأتم خاص، ومما لا شك فيه أنّ هذه الفكرة كانت تحتاج إلى إصرار وعزيمة قوية، خصوصًا في بداية التأسيس، فقد كانت هناك بعض الصعوبات وذلك لِعدم توفر المال في تلك الفترة.
وتكمل: “إنّ السعي في الخير عمل يحبه الله ويرضاه وهو يرزق عباده على قدر نواياهم، ورحم الله زوجي وشريكي في هذا النجاح الحاج حسن نجم الحبيب (أبو علي)، إذ وفقه الله لشراء الأرض وبناء البيت، فجعلنا قِسمًا منها سكنًا والجزء الآخر مأتمًا، وخيرٌ إلى خير”.
إعداد خاص
أعدّت الحاجة مرزوقة نفسها للقِراءة بطريقتها التقليدية الخاصة في مجالسها منذ 40 عامًا، على خُطى الخطيبات اللاتي أمسكنَ زِمام النعي الحسيني بالطريقة التقليدية مستخدمةً أطوار النعي المختلفة كالبحراني، القطيفي، والتخميس، والحدي وغيرهم، فكان لها جمهورها النسوي الذي يُشاركها الآهات والصرخات والحزن على أبي عبد الله (ع) كل ثلاثاء وجمعة بمأتمها، واضعة بين يديها مجاميعها الحسينية والتي تحمل أسماء مؤلفيها؛ بعضهم من شعراء القطيف والبعض الآخر من الأحساء والبحرين والعراق.
شِعرٌ وقصيدة
تتنفّس حبًا عندما تردد بعض الأبيات الاستهلالية أثناء مزاولتها لأعمال البيت، وتنفرد بآهاتها حزنًا واصفةً الشِعر الحسيني بقيثارة الوجد النابضة في شرايين المحبين، منوهة إلى أن كلمات الشعر الشجية تأخذنا إلى حيث الموقف الذي يرسمه الشاعِر فتمكّن المتلقي من الإنشاد مع قضية الإمام الحسين (ع) ومواقفه يوم الطف، وتثير فيه العاطفة بقوة فائقة من خلال التفاعل والانفعال مع ما مرّ بآل البيت (ع) من غصص، ومن القصائد التي تُحرِّك المشاعر وتؤججها حزنًا في إعلان الحداد واستعدادًا لتجديد مصاب الحسين (ع) قصيدة
ألا اخلع ثياب العيد والبس إلى العشري..
ثياب الأسى والحزن يالك من شهري
القِراءة القديمة والحديثة
كانت القراءة النسائية تعتمد على القصيدة والنعي ومن ثم المصيبة، أما الآن فهي تعتمد الطريقة المختصرة التي تركز على الموضوع والمحاضرة، وأوضحت الحاجة مرزوقة: “نحن أمام نوعين من مرتادات المآتم الحسينية، الأول يفضل النعي كالكبيرات في السن، والنوع الثاني يفضل المحاضرة، وعليك إرضاء الطرفين لكي لا يصبح هناك عزوف عن ارتياد مآتم النساء”.
التطور القِرائي
وأضافت: “لحِق التطور القِرائي بالفئة النسائية مثل التطورات في العلوم الأخرى، فدأبت كثيرات على دِراسة وتعلّم أطوار النعي الرجالي ليعطين في مجالسهنَ العطاء الأفضل من خلال الطرح والبحث التربوي والأسري والاجتماعي، والتغذية العلمية، وقد أصبحت بناتنا الآن متميزات في هذا المجال”.
وذكرت أن علاقة الخطيب الحسيني بالمنبر علاقة روحية قوية، فالخطيب يحمل في أنفاسه حب الحسين ويعيش حياته للحسين حتى وإن ضعفت قوته وتقدّم به العمر، ومن ينذر حياته لمعشوقه يستطيع أن يعطي حتى آخر رمق من حياته، وأقولها بملء فمي لو جاءتني دعوة للقِراءة فلن أردها حتى وإن كان الحضور قليلًا لأنها شرف وعزة، وهنيئًا لمن يقبل الدعوة.
رحيل خادمات الحسين
وتتأوه حزنًا وألمًا لتذكرها خادمات الإمام الحسين الراحلات فتقول: “خسارة كبيرة عندما تفقد شخصًا لازمك وأعانك بقلبه وروحه وماله، فأنا ما زلت أتذكر خادمات الحسين وكلماتهن ومساندتهن وخدمتهن بإخلاص وحب، ستبقى ذِكراهنَ عطرة وأماكنهن في المأتم خالية حتى وإن مرت سنين على رحيلهن، أدعو لهن بالمغفرة والرحمة وقبول الأعمال، منهن المرحومة الصديقة والرفيقة الخطيبة مريم الداؤود، والمرحومة الخطيبة فاطمة العقيلي (عقيلية) والكادر الحسيني المرحومة خديجة يوسف الشاووش، وأشكر الله على وجود الأخوات الطيبات الحنونات في حياتي، منهن الأخت والصديقة أم أحمد أبو ناصر العقيلي، وبدرية الداؤود، وزهراء محمد الفسيل، ومريم حسن العقيلي والكثيرات غيرهن لهنّ حبي واحترامي”.
أم ومعلمة
تؤكد الحاجة أم علي أن لكل شخص فينا عِدة أدوار مختلفة في حياته، ودور الأم يختلف عن بقية الأدوار، لافتة إلى أنها سعت بكل جهدها لإيصال رسالتها إلى أبنائها وبناتها وأحفادها، فتعلموا على يديها بعض الأدعية وحفظوها، ووصلوا إلى حيث ما ابتغت وتمنت، وبعض البنات أصبحن خطيبات.
رسالة منبرية
ونصحت الشباب قائلة: “بناتي وأبنائي خذوا من المنبر الحسيني نهجكم الحياتي فهو الصوت المتجدد الذي يُقدِّم الإرشاد الأخلاقي والعقائدي والتربوي والثقافي”، ثم وجهت كلماتها لمن يرتقي المنبر موضحة أن التجدد في الرسالة المنبرية مطلوب، وحاجات الناس وهمومهم ومشاكلهم تلزم الخطباء الطرح الذي يهدف إلى التغيير، فهناك قيم ومبادئ لا بد أن تستثمر بصورة ملائمة لتعطي تقدمًا شبابيًا ملحوظًا، فالحسين مدرسة وقيمة إنسانية، وعاشوراء مدرسة الأجيال.