ورد عن الإمام الحسين (ع): إن النّاسُ عبيدُ الدُنيا والدينُ لعِقٌ على ألسنتِهم يحوطونه ما درّتْ معائشُهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاءِ قَلَّ الديّانون (تحف العقول ص ٢٤٥).
ماذا يعني أن أكون حسينيًا في كل عصر ويمثلني معسكر الشهادة والإباء والتضحية؛ ليكون في مقابل ذلك معسكر الذئاب البشرية ممن ظلمت وغدرت؟
سؤال مهم يطرحه المرء على نفسه ليحدد الجهة القيمية والفكرية التي ينتمي إليها أو يقترب منها كثيرًا، فكم من إنسان يدعي الانتماء للإمام الحسين (ع) والانسجام مع مدرسته المعطاءة، ولكنك مع قراءة سريعة لسلوكياته وتعاملاته تجده بعيدًا – كل البعد – عن تلك التعاليم السامية، بل تراه مع هذا الادعاء الزائف أقرب لأفعال المتلونين والمرجفين والمترددين والذين كانوا بصورة واضحة في المعسكر المخالف لسبط رسول الله، وهذا ما يدعونا لتحري الدقة والوضوح من خلال تفحص أفكارنا وميولنا وما عليه أفعالنا؛ لئلا نقع في الاشتباه والاعتقاد الخاطئ ونحن حينئذ نحمل تصورًا يطهر لنا أننا من أنصار المعسكر الحسيني.
من أهم معالم المعسكر الحسيني هو حفظ النفس من اللحاق والسعي الحثيث خلف حطام الدنيا الزائل، فقد أشار الإمام الحسين في تشخيصه للداء الذي أصاب الناس في زمانه وأقعدهم عن نصرته ودعاهم للتخاذل والخنوع والقبول بالظلم والعدوان، هو حب الدنيا وعبوديتها واللهاث خلف زينتها ونعيمها الزائل دون توقف، فالسعي لتحصيل مستلزمات الحياة الكريمة وكف النفس عن الحاجة للناس من الضروريات العقلية والدينية، ولكن صب الجهود والعمل المستمر ووقف النفس على تجميع الثروة والاغترار بها أمر آخر، وما كان عليه الناس من عبودية للدنيا في زمن نهضة الإمام الحسين ومناوئة دعوته للوقوف أمام الظلم والعدوان وتحريف الدين، هو ما غيب عقولهم وأوقع نفوسهم رهائن في أغلال الشهوات، نعم لقد أسرتهم الدنيا وحبست حرياتهم وقيدت حركتهم فسقطوا في أحضانها وما استطاعت آذانهم الصماء أن تسمع صوت الحق والفضيلة، وهذا الارتهان للدنيا لا يخص زمنًا دون آخر بل هو سُنّة في العباد تبعدهم عن الحق وتصنفهم في الصفوف المناوئة له، فعلينا محاسبة أنفسنا وتفحص مواضع وموارد الالتصاق بالدنيا وما يجعلها أكبر همنا، فإن الحسين في عصرنا لو وجه لنا نداء النصرة والوقوف بوجه الطغيان ونشر الموبقات، فمن أشربت الدنيا قلبه فسيقعد بالتأكيد عن حركة الإصلاح والنهي عن المنكر.
الحركة الإصلاحية الحسينية صالحة وفاعلة في كل زمان، تدعو إلى ترسيخ القيم الأخلاقية في سلوكياتنا وتصرفاتنا مقتدين بالإمام الحسين ومن ساروا معه، وكم من إنسان تجد في أقواله الشيء الكثير من الحديث عن تهذيب النفس والالتزام الأخلاقي، ولكنك لا تجد في تصرفاته إلا ما يعاكس ذلك على أرض الواقع.
وعلينا ألا نمر مرور الكرام على قضية من كاتبوا الإمام الحسين وتعهدوا بنصرته والذب عنه، فهناك قسم منهم كالخوارج ما فعلوا ذلك حبًا في الإمام وإنما كان مرادهم وقوع الاصطدام بين فريقين لا يكنون لهما إلا الكراهية، ولكن هناك قسم من شيعة أهل البيت كاتبوا الإمام وأبدوا امتعاضهم من الطغيان، وحينما حانت لحظات الاختبار الحقيقي للنصرة تخاذلوا وضعفت إراداتهم عن المواجهة، ولهذا الوهن والتعاجز عوامل متعددة ولكن أهمها بالتأكيد هو ضعف البصيرة وحب الدنيا والبقاء ولو كان تحت سياط الإذلال!
تلك الحالة من تعطيل القدرات التفكيرية ودراسة فحوى الدعوة الحسينية للإصلاح كما جوبهت في ذاك الزمان بالتخاذل فإنها اليوم كذلك، ممن يعيش سطحية في فهم القيم الدينية فضلًا عن ضعف إرادته في التحلي بها كسلوك مستمر، وأما صاحب البصيرة وممن هذب نفسه يجعل نصب عينيه الإمام الحسين أبا الأحرار وهو يصدح بصوت الحق والفضيلة، فينظر لسلوكه ومدى مواءمته وانسجامه مع الفكر والقيم الحسينية؛ ليكون على بينة من أمره ونضج في تفكيره ليصل إلى ذاك الوعي الذي كان عليه أصحاب الإمام الحسين، ممن بذلوا مهجهم وتفانوا في سبيل إعلاء كلمة الحق، ولنسلط الضوء على ظاهرة النفعية التي تفشت في زماننا وطغت على كل القيم والأخلاق الحميدة في تعاملات وعلاقات الناس، فمعيار القرب أو البعد من هؤلاء عندهم هو وجود مصلحة له عنده يسعى لتحصيلها ثم ما يلبث أن ينسحب عنه، بل ويواجه أهل الخير والصلاح مع معرفته التامة بهم لا لشيء سوى أن مصلحته تكمن في الضفة المقابلة لهم، هذا الداء – النفعية – كان من أهم العوامل المانعة للناس عن نصرة سبط رسول الله (ص)، فقد كانت الذمم في معرض سوق النخاسة يشتريها من يدفع لهم مالًا، وأما لو كانوا أحرارًا في قرارهم ويمتلكون الإرادة والنضج لما مالوا إلى عداء السبط الشهيد والتخاذل عنه في سبيل تحصيل مآربهم.