ينطوي عالم المراهقة على تحديات كثيرة ومربكة، إما أن نستطيع تجاوزها والتغلب على صعوباتها، أو يعترينا الفشل والإخفاق فيها.
وقد يلازمنا الإخفاق مدى الحياة إن لم نساعد أنفسنا على التغيير.
كنت في الثالثة عشر من عمري عندما استدعت إدارة المدرسة أمي، وبوجود مربية الفصل والوكيلة والمرشدة الطلابية، أخذت كل واحدة منهن تقول ما لديها عن إهمالي للدروس والواجبات، وعن نشاطي الحركي المفرط، وإلحاق الأذى بزميلاتي لتنمري عليهن بشد شعورهن، وضربهن ودفعهن إلى الأرض، وما جدَّ في الأمر هو سرقة ما تطاله يدي من أقلام وأدوات تخصهن مما سبب حنق الأهالي، وكَثُرت شكواهم من سوء سلوكي وتصرفاتي.
ولم ينسين أن يضعنني في مقارنة مع أخواتي الأربع الأكبر مني، اللاتي تعلمن في نفس المدرسة وتخرجن فيها تاركات وراءهن أثراً طيباً من حسن السلوك والاجتهاد والتميز.
نظرتُ إلى أمي التي راحت تحُّدق فَيَّ دون أن يرف لها جفن، أو تبدي أية مشاعر، وحدجتني بنظرة جمدت فيها الدموع ! لأول مرة أشعر فيها بالخوف من النظر إلى عينيها!
عدت إلى غرفة الصف، وبقيت أمي في “غرفة الإدارة” ولم أعرف ما دار فيها من نقاش.
ومن خلف الزجاج رأيتها تخرج بضعف وانكسار؛ مُحْرَجة تجر أذيال الخيبة في إصلاحي.
وبختني أختي الكبرى سهام المتزوجة – حينها – حديثاً قائلة: وصل بكِ الأمر إلى السرقة؟! كل شيء متوفر لديكِ واحتياجاتك تلبى أولاً بأول، فلماذا تقدمين على هذا الفعل؟
وانضمت إليها الأخريات كل واحدة تلقي عليَّ بعبارات التأنيب بلهجة شديدة، على مرأى ومسمع من أمي التي آلمتني بصمتها ولم تتخاطب معي – من يومها – عقاباً لي.
لحظتها، اعتراني ضيق خانق لا يوصف، وصرخت فيهن: أنتن تكرهنني لا تحببنني، لا أتلقى منكن إلا الضرب والإهانة لأي سبب تافه أرتكبه، أو حتى بدون سبب، لا تنكرن أنني سمعتكن أكثر من مرة ترددن أنني وجه نحسٍ وشؤمٍ عليكن منذ وُلِدْتُ؛ فقط لأن أبي – رحمه الله – رحل بعد مولدي، وكأنني أنا من تسببت في موته!
الأب الذي لم أعرفه، ولم أره إلا من خلال صوركن معه وأنتن تضحكن بسعادة في حضنه، وهي لحظات حُرِمتُ – أنا – منها.
وجمت الوجوه وهن ينظرن إليَّ وكأن على رؤوسهن الطير!
ركضتُ إلى حجرتي وصفقت الباب خلفي بقوة، منزوية يتصبب دمعي بغزارة.
مرضت بعدها مرضاً شديداً، وأصبت بالحمى، مما جعلني أتغيب عن المدرسة أسبوعاً كاملاً، خلاله رقدت أياماً في المستشفى للسيطرة على الحمى المتأرجحة ما بين الصعود والنزول، رافقتني أمي لترعاني، وكنت أراها – في نوبات الصحو – تطيل الجلوس على سجادة الصلاة التي حملتها معها، تدعو الله وتبتهل إليه، تردد اسمي بهمسٍ بين ثنايا دعواتها، وبعد أن تنتهي تحاول مسح دموعها خفية عني.
بعد تحسن حالتي خرجت من المشفى، أحاطت بي أخواتي يشعرنني بالمحبة والاهتمام، وقدمت لي كل واحدة منهن هدية، مرفقة ببطاقات دُوِنَتْ فيها عبارات محفزة – وتنوعت الهدايا ما بين باقات الورود، والحلويات المحببة إلى نفسي، والقصص والكتب التي لم أكن أميل إلى قراءتها.
هدايا كثيرة، لفتني من بينها هدية مغلفة بتنسيق رائع، مربوطة بشرائط حريرية جميلة، هدية من “ريهام” أختي التي تكبرني مباشرة، أزلت غلافها بحماس، فوجدتها عبارة عن موسوعة تتحدث عن عالم الفراشات وكل ما يتعلق بها.
جذبني الكتاب، وابتسمت وأنا أتصفحه! لأنه ذكرني بإحدى المعلمات – في مرة من مرات المُشَاكَسَةِ – عندما قالت لي غاضبة: يا لكِ من طائشة! أطيش من فراشة!
لم أفهم ما قصدته حينها.
عرفت بعدها أنه مثل تقوله العرب، ويُضْرَبُ الطيش بالفراشة؛ لأنها في حركة دائمة ولا تستقر في موضع، بل لا تزال واقفة وطائرة، يجذبها الضوء، وتتهافت على السراج، إلى أن تلقي بنفسها في النار وتحترق.
أما عن الموسوعة فقد قرأتها بنهم! وصرت بعدها أطلب المزيد من الموسوعات المختلفة والقصص، إلى أن صرت أنتقي الكتب لأقتنيها، وأشتريها بنفسي بالتردد على المكتبة.
يتبع.