لم يكن عطاء النخلة متوقفاً على الأنواع اللذيذة من رطبها فقط، بل يستمرَ ذلك العطاء مع نهاية موسم الرطب، لتبدأ مرحلة “الصرام” وهي المرحلة الأخيرة لتلك الثمار اليانعة التي تحملها النخلة، حيث يتم قص عذوقها وتجميعها في أماكن نظيفة ليستمر العطاء لتحضير التمر والدبس منها.
عندما يحين موسم الصرام الكثير من المزارع والبساتين في بلدتي جزيرة تاروت كما هو في سائر بلدات “محافظة القطيف” تفترش الحصير المصنوع من خوص النخيل في أماكن واسعة ونظيفة بين ظلال النخيل تسمى ب “الفدا” وهو المكان الذي يجمع فيه كل ما تبقى من ثمار النخلة، وهذه المرحلة تسمى بـ”الصرام” أي صرم أو تنزيل ثمر النخلة وتجميعها.
لم أكن أتوقع أن تتحول بلدتي جزيرة تاروت يوماً من الأيام إلى مستهلك لمختلف أنواع الرطب حالها حال المدينة، حيث إنها كانت يوماً ما تحيط بها مختلف أنواع النخيل الباسقات، وتمول المدينة من خيرات أرضها وتصدر فائض محصولها إلى الدول الخليجية المجاورة كالكويت وقطر، وهذا التحول ربما جاء بسبب أن الفلاح المنتج اليوم لم يعد يقوم بدوره في الفلاحة وحبه للنخلة والبستان كما هو حال الفلاحين في الماضي، وأن الكثير من الفلاحين اليوم تحولوا إلى قطاعات مستهلكة بعد أن هجروا الزراعة والفلاحة والتحقوا بالشركات التي تعمل في البلاد.
الكثير من الفلاحين من أبناء بلدتي رحلوا عن هذه الحياة دون رجعة يرحمهم الله، ورحيلهم أصاب الأرض والمزارع والبساتين بالحزن الشديد، وما نشاهده من خراب في مزارع وبساتين مختلف مناطق محافظة القطيف هو بسبب هجرة الناس من الفلاحة إلى الشركات، وهذا الهجران استغلته أيدي سماسرة العقار وسطت على معظم الأراضي الزراعية وحولتها إلى قطع أراض صغيرة تباع إلى الناس بأغلى الأثمان!
مزارعنا وبساتيننا التي كان يعمل فيها الفلاح في الماضي كانت تمول المدن بالرطب والتمور ومختلف المحاصيل، وفي موسم الصرام كنا نعمل على مساعدة الفلاح في تجميع الرطب المتساقط تحت النخلة وتسمى هذه العملية في قاموس الفلاح بـ”الرقاط” وكنا نشاهد السيارات الكبيرة التي تعبر البستان لتحميل فائض المحصول وتصديره لدول الخليج العربي المجاورة، فقد كان الفلاح يحصل على رزقه من الزراعة وعائد بيع المحصول ومما تنتجه المواشي كالحليب واللبن والدهن البلدي الصافي وغيرها.
للأسف لقد خسرنا الاكتفاء الذاتي مما تنتجه الأرض في بلادنا، والآن بات الحال لا يسر بعدما أصبحت أرضنا وما تبقى من مزارعنا وبساتيننا تدار بأيدي العمالة الأجنبية وأصبح الرطب والتمر وكل شيءٍ فيها لا يسر الناظرين، ورحم الله الفلاحين في حَيِّنا أمثال الحاج حسن المرحوم وابنه إبراهيم، والحاج عبدالله القلاف (أبو علي)، والحاج رضي عوجان (أبو عبدالله) والحاج علي بن أحمد البحراني وابنه أحمد، وغيرهم من الفلاحين في مختلف مناطق جزيرة تاروت الذين كانوا يدارون النخلة ويكرمونها.
وفي الختام، للأسف لم يعد الفلاح اليوم حريصًا على أرضه وبستانه كما هو في الماضي، والكثير منهم تركوا زراعتهم وبساتينهم عرضة للتصحر والخراب بسبب هجرتهم لها، الذي مهد الطريق لسماسرة العقار بإغراء الفلاحين لتجريف أرض أجدادهم وتحويلها إلى أراضٍ سكنية، والحصول على عائد مادي سريع، وإن كل المزارع والبساتين في البلاد قد تدهورت بشكل يدعو للحسرة والألم.