كلماتٌ كان يقولها كبار السنّ عندنا – إن خلَّاك البين ما خلَّاك الكبر – تختصر حكايةَ فصولِ الحياة، فحين نكون شبَّانًا وشابَّات نطل من أفقٍ عال، فلا نرى إلا الصحَّة والجمال ترفرف فوقَ رؤوسنا. ثم، قليلًا قليلًا، نكبر وينحطّ ذلك الأفق ويهبط نحوَ العجز، ولا سمح الله إلى المرضِ وأرذلِ العمرِ وأحقَرهِ وأهوَنه، إذا قيسَ بما قبله.
أرذل ما في هذا العمر أنه لا يستطيع الإنسان أن يستمتعَ بمتعِ الحياة، فبعدما كانت الدّنيا مفتوحة، الآن مسجون في غرفةٍ صغيرة، وبعدما كان يستمتع بضياءِ الشَّمس كلَّ صباحٍ ومساء، هو الآن لا يرى إلا ضوءَ الكهرباءِ الخافت. وبعدما كان يزوره النَّاس هاشّين باشّين، انقطعوا عنه وملّوا زيارته، ولا صديق إلا الطَّبيب، وبعدما كان وقَّاد الفكر قويّ الحافظة، الآن لا ذا ولا ذاك!
أحقر ما في هذا العمر أن يعجز الإنسانُ عن خدمةِ نفسه، فبعدما كان مستورَ العورة، بانَ ضعفهُ وانكشفت عورته للقريبِ والغريب. وبعدما كان كتلةً من القوَّة والنَّشاط، صارَ كومةً – على فراش – مثل البنيانِ المهدوم!
اشتاقوا إلى أن تكونوا كبارًا وعجائز، فهذه سنَّة الحياة، كل صغيرٍ يكبر، وادعوا اللهَ أن تكونوا أصحَّاء ما بقيتم. كان من دعاء الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السَّلام “اللهم اجعل نفسي أوَّل كريمةٍ تنتزعها من كرائِمي، وأوَّلَ وديعةٍ ترتَجعها من ودائعِ نعمكَ عندي” ، والإمام علي بن الحسين عليه السَّلام كان يقول في دعائه “اللهمَّ احفظ عليَّ سمعي وبصري إلى انتهاءِ أجلي”.
لا تستعجلوا هذه المرحلة من العمر بالعاداتِ السيِّئة، من الأكلِ والشرب والتَّدخين والكسل، وإذا استطعتم أن تقطعوها بأقل تعب وأكبر كرامة فذلك خير، اشكروا اللهَ عليه، وإذا أراد اللهُ غير ذلك فهو ابتلاء وكرامة للمؤمن إذا صبرَ وشكر.
أرذل العمر، هي فترةٌ ثقيلة على من هو فيها، وعلى المقرَّبين منه، إلا ما ندر. ومن الحكايات أن الخنساء كان لها أخ اسمه صخر، طُعن في قتال، وبقي شهورًا تمرضه أمه وزوجته. سئمته زوجته وملَّت منه، وقالت لإحدى جاراتها لما سألتها عنه: لا حيٌ فيرجى، ولا ميِّت فيُنسى، فسمعها صخر، فقال:
أرى أمَّ صخرٍ لا تملّ عيادتي … وملَّت سُليمى مضجعي ومكاني
وأي امرئٍ ساوى بأمٍّ حليلةً … فما عاشَ إلا في شقًا وهوانِ
أما أمّه إذا سُئلت عنه قالت: أصبحَ بنعمةِ اللهِ سالمًا!